مقالات

الانعتاق

يا هذا أما آن لك أن تنعتق عن كلّ ما يؤذيك، وأن ترحل عمّا يضرّك ويرديك، وأن تطلّق ما يتعبك ويشقيك، وأن تبتعد عمّا يشينك ويكويك، وأن تنأى عمّا يناوشك ويشجيك، وأن تولّي وجهك إلى كل ما يريحك وينجيك، وأن تنظر إلى ما يهدهدك ويحميك؟ ثمّ بعد ذلك تخطّ مداد الصّلاح على قرطاس الفلاح، وتنيخ ناقة الهدوء والاسترواح على أرض الشّقاوة والعناء والبراح!

لعمري فما هذي الحالة الّتي تشرنقت فيها، وتقوقعت حولها، فتسرّبت داخلك، وتشرّبتك حتّى الثّمالة، فتماهت في ثناياك، وتمازجت في حناياك، حتّى غدوت معلّقًا في خوفٍ لا ينفد، وذعرٍ ممتدٍّ، ورعبٍ لا يحدّ، ويأسٍ متّقدٍ، وعجزٍ لا ينقطع، وبؤسٍ لا يمتنع، ولأواء لا تندفع، وضعفٍ قد تسربل بذاتك، ووخزٍ قد تلبّس حياتك، وتغيّا روحك وأناتك، فأمسيت والوهم قد حاصرك، والهمّ قد ناصرك، والغمّ قد بادرك، والشؤم وقد أطبق عليك، والعمى قد غطّى قلبك، وتماهى بين يديك، وإذا بالفقر وقد هام فيك، وبالبلاء وقد تراءى بناظريك، وبالعجز يناديك، وبالهوان يصنعك، وينطلق من فِيك!

لا تخش بؤساً من عدو ظاهر

يا هذا ارفق بنفسك، وأرح قلبك، وهدّئ من روعك، وتخلّص من نوحك، وترفّق ببوحك، فإنّ الله الجميل لن يرضى لك العذاب، ولم يكتب عليك الحراب، ولم يفرض عليك الشّقاء، ولم يثبت لك العناء، فقرّ عينًا، واهدأ بالًا، واسكن صدرًا، وابلغ صبرًا، واهنأ روحًا، واعلم أنّه لن يكون لك إلّا ما أراد الله، وتيقّن بأنّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنّ النّصر مع الصّبر، وأنّ مع العسر يسرا.

يا صاحبي لا تنشغل كثيرًا بأولئك الّذين يكرهونك ويعادونك، فهؤلاء واضحون، كالشّمس ظاهرون، لا خطر فيهم ولا خوف منهم، وإن حقّ لك الخوف، فبإمكانك أن تتعامل مع سبيلهم، وتتعايش في دروبهم، خاصّةً أنّهم لا يخفون فعلهم، ولا يسترون قولهم، ولا يضمرون كرههم، ومن ثمّ فلا يغيب عنك أمرهم، ولا يسدلون وخزهم، قد ناصبوك –وأنت تعلم– العداء، وألّبوا عليك الأصدقاء قبل الأعداء، لا يألون جهدًا صباح مساء، ينصبون لك الشّراك، ويحرقون لك الثّمر والأراك، تعرفهم بسيماهم، وتتبيّن شأنهم ورؤاهم، يجاهرونك الشّقاء، ويعلنون لك الفناء، ويتمنّون لك الموت والهباء!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

العدو الصديق أخطر من العدو الظاهر

99 1 - الانعتاق

إنّما الخوف يا صاحبي من هؤلاء المنافقين المتلوّنين، الّذين أحرق الحقد قلوبهم، وطمس الحسد نفوسهم، يتخفّون في ثوب الصّداقة، ويتزيّون بالقرب والّلباقة، قد حسنت ألسنتهم، وسقمت أفئدتهم، أولئكم الّذين يبتسمون في وجهك، ويضحكون بين يديك، وهم يضمرون الموت والعفاء، ويتمنّون الحمام والقضاء، وبينما يصافحونك بيدٍ، تتأهّب الأخرى بالضّغط على الزّناد، فالحذر الحذر منهم، فلا تأمن شرّهم، وترقّب دائمًا وأبدًا غدرهم!

الحقيقة المرة أفضل من الوهم المريح

اعلم أن من أصعب الأشياء أن يعيش الإنسان –واهمًا– واقعًا يتخيّله مع الآخرين، يبني قصورًا من آمالٍ أبديّةٍ، وبناياتٍ من أمنياتٍ سرمديّةٍ، يداعبه طيفٌ وثيرٌ، وحلمٌ جميلٌ أثيرٌ، ملؤه السّعادة، والحبّ، والعناق، والحياة، والإخلاص، والانطلاق، والودّ، والوفاء، والتّسامح، والهناء، ثمّ إذا به يستيقظ مذعورًا أنّه كان في حلمٍ، مجرّد حلمٍ، يمنّي نفسه الأمانيّ، ولا شيء غير الأمانيّ، ويدرك آنئذٍ أنّه كان في وادٍ سحيقٍ، تتراءى له مدينةٌ مثاليّةٌ فاضلةٌ، ينسج غزلها، وينظم عقدها مع أناسٍ محّضهم الحبّ، وولّاهم الوفاء، وأسبغ عليهم الودّ، ومنحهم الإخلاص، منتظرًا إيّاهم كي يحيا معهم ما تبقّى له من عمرٍ، بينما هم هنالك في الضّفّة الأخرى قد صمّوا آذانهم، وأغشيت أبصارهم، يصنعون ما بدا لهم، يعيشون حياتهم، ويصطخبون في أناتهم، لا يرونه، ولا يحسّون به، ولا يشعرون بماهيّته، ولا يأبهون بكينونته، بل الحقيقة المرّة أنّه ليس له وجودٌ في عالمهم، ولا ذكرٌ في دنياهم، فلا يهتمّون بأحلامه وآماله، ولا يأبهون بعذاباته وخيالاته، أو بتصوّراته وتوسّلاته، يفعلون ما بدا لهم، ويقومون بما عنّ لشأنهم بعيدًا عن أناه، قصيًّا عن وجوده ورؤاه.

مقالات ذات صلة:

الصداقة مبادئ ومواقف

اضغط على الاعلان لو أعجبك

النفاق من المسرح إلى الحياة العامة

ثقافة التطفل وآفة الانشغال بالآخر

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. محمد دياب غزاوي

أستاذ ورئيس قسم اللغة العربية- جامعة الفيوم وكيل الكلية ( سابقا)- عضو اتحاد الكتاب

مقالات ذات صلة