مقالات

لماذا يكذب الإعلام .. الجزء الرابع والأخير

نعاني من تلوث الهواء لكن لا يمكننا رفض التنفس فلا حياة للإنسان بغير الأكسيجين حتى لو استنشقه ملوثًا، وعندما تتعطل سيارتك فأنت لا تلقيها في البحر بل تحاول إصلاحها، والحال نفسها بالنسبة إلى الإعلام، فإذا هو فسد صار علينا إصلاحه لا التخلص منه، فالناس لا تستغني عن الإعلام كونه وسيلة تواصل مع الأخبار وأداة للمعرفة، لكن مع الكذب الإعلامي تصل الأخبار والمعارف كلها مكذوبة ومضللة، وتلك هي المعضلة وتلك هي المأساة، فالإعلام للإنسان كالطعام لبدنه، لا يستطيع أن يستغني عن الطعام إلا أنه مع ذلك لا يمكنه أن يأكله مسممًا فيموت، فلا بد إذًا من البحث في تلك الوجبة المسمومة عن لقمة لم يطلها السم، لكن مع تزايد نسبة الكذب في دم الإعلام يصبح البحث عن الحقيقة فيه كالبحث عن إبرة في كومة قش، وعلى الإنسانية إصلاح الإعلام إذا كانت تريد مجتمعات شريفة وعادلة، وإذا كانت تنحاز للصدق والأمانة والإنسانية الحقة، لأنه إذا تغلب فينا الإنسان على الشيطان صار لدينا إعلام ينشر الحقيقة، أما إذا تغلب الشيطان واستفحل الكذب فسيذهب الإعلام والإنسان مع الشيطان إلى الجحيم.

الإعلام العربي نسخة رديئة ومزيفة مما يجب أن يكون عليه الإعلام، لكن الإعلام الغربي في الدول الديمقراطية يكذب أيضًا، الفرق في نسبة الكذب، الإعلام العربي يكذب بنسبة 90% تقريبًا، والإعلام الغربي يكذب بنسبة 10%، لكن العشرة بالمئة من الكذب في الكلام كفيلة بأن تفقد الكلام كله مصداقيته، لدرجة أن يقول المفكر نعوم تشومسكي مثلًا: “أي ديكتاتور سوف يعجب بتوحيد وسائل الإعلام الأمريكية وطاعتها”. الخلاصة أنه لا يوجد إعلام على الكوكب الذي نعيش فوقه يخلو من الكذب.

الإعلام الفاسد كالزوج السيئ، تكرهه زوجته ولا تستغني عنه للبيت والأولاد، بل تدعو الله في الركوع والسجود أن يهديه إلى الصراط المستقيم، وهذا حال الشعوب العربية مع إعلام الكذب.

انحراف بوصلة الخطاب الإعلامي

معيار الإعلام دائمًا الضوابط الإعلامية، فاذا انعدمت الضوابط الإعلامية وميثاق الشرف الإعلامي صار الإعلام فاسدًا وضاعت الحقيقة، وانهدرت الحقوق وعم النفاق المجتمع كله وسادت الفتن روح العصر.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الإعلامي الكذاب يجد مصلحته في هذا الكذب، سواء لأنه مستفيد من الطرح الكاذب للحقائق ويخشى على مكتسباته من ظهور الحقيقة، أو لأنه ببساطة مرتش، والرشوة اليوم لم تعد سرًا من تحت “الترابيزة” بل تظهر للعلن في صورة أجور ضخمة بصورة غير عادلة، الذي تحت الترابيزة قد ينكشف وتصبح فضيحة أما المعلن فهو مبرر في صورة أجور، فحتى لو زادت أجور الإعلاميين المضللين بصورة مشبوهة فهي تظل أجورًا، ولا يستطيع أحد أن يعاتب إنسانًا في أجره ولن يقع إعلامي بسبب أجره أبدًا تحت طائلة القانون.

لكن الحقيقة ستكون الضحية، والإعلام الحقيقي سيصبح مع المصلحة حلمًا بعيد المنال.

فما بالك لو أضفنا إلى اعتبارات المصلحة، التدخل السلطوي المباشر في توجيه الإعلام بالترهيب والتخويف والإجراءات القمعية؟ وهي سلوكيات معتادة من الأنظمة الديكتاتورية بوجه عام.

لا نقصد بهذا الكلام إعلام دولة معينة في العالم ولا في المنطقة العربية، فالكذب الإعلامي من العموم والاستفحال بحيث أصبح أكبر بكثير من هذا التخصيص.

الخطاب الإعلامي بين المهنية والتضليل

٣ 3 730x438 1 jpg - لماذا يكذب الإعلام .. الجزء الرابع والأخير

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الإعلام عندما تضيع مصداقيته يفقد الناس الثقة كليًا في الصحف والقنوات الفضائية والبرامج الإذاعية، ولا يجدون ملجأ ولا مفرًا من الكذب المحيط بهم، فجميع العاملين في الحقل الإعلامي يعرفون جيدًا أن هناك خطوطًا حمراء ممنوع تجاوزها، وحتى قناة الجزيرة نفسها، مع نجاحها وانتشارها الكبير مصدرًا للأخبار والتحليلات السياسية والمناقشات الحرة، لا يمكنها مثلًا انتقاد حكام قطر، لكن كما قلنا فالمسألة نسبية، هناك مصادر إعلامية خطوطها الحمراء قليلة وهناك مصادر تعاني من مئات الخطوط الحمراء التي لا يمكنها تخطيها، والإعلاميون على كل منبر إعلامي يلتزمون بالخطوط الحمراء سواء رضوا بذلك أو لم يرضوا.

كتابات الصحفي بالجريدة والإعلامي بالقناة يراجعها مرؤوسوه ثم من يحركون مرؤوسيه، والمشكلة التي ستواجههم نتيجة لذلك أن جمال الخبر والتغطية الإعلامية للحدث وللحقائق التاريخية والراهنة إنما يكمن في أمانة التناول، الجمال ملازم للأمانة أما الكذب فقرين القبح، وبضياع الأمانة والموضوعية ينتشر قبح الكذب ويفقد الصحفيون أو الإعلاميون مصداقيتهم، فأنت تستطيع أن تخدع الناس كلهم بعض الوقت ولا تستطيع أن تخدع بعض الناس الوقت كله، وحتى الذي من هؤلاء الإعلاميين ما زالت لديه بقية من ضمير يؤنبه فهو مقهور، ولا يستطيع أن يعترض على حقيقة أنه صار بوق أكاذيب، وأن شكله صار سيئًا أمام المشاهدين أو المستمعين أو القراء، أما الذي باع ضميره من زمان فينفذ ما يُملَى عليه كله وهو سعيد.

العجيب أنهم لا يكتفون بتزييف الحقيقة، بل يأخذون في التشدق طول الوقت بمعاني الشرف والوطنية، حتى الإعلام البديل على الإنترنت ومواقع التواصل الذي علق كثيرون الآمال عليه أنه منبر بديل للحقيقة، سقط معظمه هو الآخر في الأنانية والانتهازية إلا قليلًا.

المشكلة الكبرى أن تغيير هذا الواقع في ظل هذه السيطرة المركزية على الإعلام لا يمكن أن يحدث إلا بواسطة الناس، والناس معظمهم لاهٍ ومغيب ولا يهتمون إلا بالسفاسف والأمور التافهات، ولا يزال المال الإعلامي يصب في استمرارية نشر الكذب وقلب الحقائق حتى تحول الإعلام من آلة للمعرفة إلى مؤامرة على الحقيقة وعلى الضمائر والعقول، وهم يعتمدون في تمرير الكذب على سلبية المشاهد ورغبته في ألا يتعب نفسه في تقصي الحقيقة، وهذا الكسل يجعله مستعدًا لتقبل ما يقال كله على أنه الحقيقة، كما يعتمدون على الضعف الثقافي والمعرفي عند المشاهد أو المتلقي وعلى العقول الخاوية، فالوعاء الفارغ يسهل ملؤه والجاهل يصدقك بأسرع مما يصدقك الواعي أو المتعلم، كما يعتمدون كذلك في نشر أكاذيبهم على ثقة الناس في مصدر الخبر، ولهذا يستخدمون أشخاصًا يحبهم الناس ويثقون بهم لتمرير الأكاذيب على ألسنتهم، فيتغلف الكذب بالقبول والمصداقية وقد أشرت إلى هذه النقطة في المقال السابق.

إعلام الجهلاء وأنصاف الموهوبين

ومما زاد الطينة بلة أن المناصب الإعلامية ذهبت غالبًا إلى التافهين من الإعلاميين والصحفيين، وبغض الطرف عن المناصب، فالأماكن الإعلامية كلها في الحقيقة محجوزة لمن هم على هذه الشاكلة، إلا بعض الإعلاميين الذين ما زالوا محتفظين بشيء من الاحترام وهم قليل، وأنت لا تستطيع أن تحصل على إعلام له قيمة من إعلاميين مسطحين وشبه جهلاء، حتى أن كثيرين يخطئون في اللغة أخطاء يكاد يخجل منها تلاميذ المدارس الإبتدائية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

قد يذكرك هذا بقول المفكر والجغرافي الراحل الشهير جمال حمدان: “في حين يتسع صدر المجتمع برحابة للرجل الصغير، فإنه على العكس يضيق أشد الضيق بالرجل الممتاز، إذ لا مكان له فيه، وأفضل مكان له خارجه، فشرط النجاح والبقاء في بلادنا أن تكون اتباعيًّا لا ابتداعيًّا، تابعًا لا رائدًا، محافظًا لا ثوريًا، تقليديًا لا مخالفًا، ومواليًا لا معارضًا” (شخصية مصر ص 539).

كما قلنا فإن كذب الإعلام غير مرتبط بدولة ولا بحدود جغرافية إلا نسبيًا، وغير مرتبط بحدود زمنية إلا نسبيًا، فالكذب الإعلامي ليس حكرًا على عصر دون عصر ولا عهد دون عهد، لكن درجة الكذب تختلف، فيمكن وصف عهد فلان بأنه كان أكثر أو أقل كذبًا، ولا يمكن تبرئة أي من العصور التي مرت بنا وبالعالم من الكذب الإعلامي أبدًا.

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الجزء الثالث من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ . شامخ الشندويلى

الشاعر والكاتب والسيناريست المعروف

مقالات ذات صلة