مقالات

الحياة المرنة وتحديات عالمنا المعاصر!

«الأمن في الغالب خرافة، فلا وجود له في الطبيعة، ولا ينعم به بنو البشر كلهم. تجنُب الخطر ليس أكثر أمانًا على المدى الطويل من التعرض المباشر له، الحياة إما مغامرة جريئة، أو لا شيء»!

مقولة للأديبة الأمريكية «هيلين كيلر» (Helen Adams Keller 1880 – 1968)، تُقتبس عادةً في سياقات برامج التنمية البشرية، فلأن تُواجه الخطر وأنت حُرٌ خيرٌ لك من أن تلتمس الأمن وأنت ترزح تحت وطأة العبودية، ولأن تتجاوز مخاوفك التي تُحذرك من الخطر أكرم لك من أن تستسلم لحياتك البائسة عاجزًا!

لكن المقولة –كغيرها من مقولات كثيرة– لم تعد تحفيزية كما قد يُوحي محتواها، بل باتت بمنزلة قاعدة سياسية وإدارية هدفها الأول والأخير إعادة صياغة العقد الاجتماعي (Social Contract) المتعارف عليه لقرونٍ طويلة خلت: من ضمان الحرية والأمن وحل المشكلات الحياتية العالقة إلى الحكم والهيمنة والرقابة دون ضمانات، وهو ما يتجلى بوضوح في التعاطي السياسي لكثير من الحكومات مع الأزمات المعاصرة، مثل الجوائح والحروب والصراعات العرقية والدينية والتغيرات المناخية وغيرها، ما أدى إلى انبثاق وضعٍ جديد لحياة بلا ضمانات حكومية، حياة يغشاها مصدر تهديد مستمر وخطر متصاعد على الشعوب أن تتصالح معه وتتعايش، فما بين تفشي الأوبئة مثلًا، والعواقب المُدمرة لتغير مُناخي لا مناص منه، يتلاشى الفارق بين العالمين الطبيعي والاجتماعي، لأن التغيرات البيئية والأوبئة من شأنها أن تؤكد حالة الضعف الكامنة في الفرد، بصرف النظر عن الطبقة الاجتماعية والوضع الوظيفي واللون والدين والجنس!

هذا ما تنبه له الإنجليزيان «براد إيفانز» (Brad Evans) و«جوليان ريد» (Julian Reid) في كتابهما المشترك الصادر سنة 2014 تحت عنوان «الحياة المرنة: فن العيش في خطر» (Resilient Life: The Art of Living Dangerously)، إذ قدَّما رسمًا تفصيليًا لخرائط التغير في السياسات الليبرالية، فإذا كانت الليبرالية مبنية تقليديًا على الوعد بالأمن، فإن الليبرالية الجديدة في طريقها إلى التخلي التام عن المثل الأعلى للأمن، وتبني مفهوم الخطر شرطًا ضروريًا للحياة. ومع تكاثر الأخطار وتصاعدها تنتبه الشعوب بتزايدٍ لضرورة العيش في كنف أنظمة معقدة وديناميكية لا تُقدم أي احتمال للسيطرة، وتستبدل خيالًا كارثيًا يُعزز انعدام الأمن بحُلم الأمن الدائم، ومن ثم تُصبح «المرونة» (Resilience) –كونها قدرة على التكيف واستيعاب التهديدات– هدفًا والتزامًا! إنه مشروعٌ أيديولوجي ضخم، ينطوي على تجريد الإنسان من أي إيمان بقدرته على تجاوز مجرد الحقيقة البيولوجية للوجود، والتكيف مع المخاطر الوجودية بالطريقة ذاتها التي تتكيف بها الأنظمة الحية مع مخاطر بيئتها.

تُعلمنا المرونة أن «نعيش في حالة رُعب دائمة، لكنها طبيعية، تغشانا فيها رهبةٌ متحجرة». وفي سياق الأحداث الحالية التي يمر بها العالم، تُعد المرونة بمنزلة أيديولوجيا جديدة لقوة رأس المال والدولة، فلا حديث عن القضاء على الفقر، بل عن كيفية جعل الفقراء قادرين على التعايش مع هذا الواقع الحتمي، ولا حديث عن إجراءات فعَّالة لمواجهة أزمة المُناخ والقضاء على الاحتباس الحراري، بل عن كيفية التعاطي مع تغيرات مُناخية قاتلة ومؤكدة، ولا يتعلق الأمر بالقدرة على قتل الفيروسات لأن الفيروسات لا تموت ولا تنتهي، لكن عن كيفية تكيف الناس معها بتحسين المناعة ذاتيًا! لذا، يشير «إيفانز» و«ريد» إلى أن «المرونة» هي التجسيد المؤكد للفكر الليبرالي الجديد، لأنها تتوافق مع المبادئ التوجيهية لهذا الفكر دون التشكيك في المواقف السياسية الواهنة!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

تُعد البيولوجيا الجزيئية مثالًا نموذجيًا في هذا الصدد، إذ التعرض للخطر «شرطٌ محتملٌ» وليس عقبة أمام التنمية البشرية، لذا فإن مشكلة الكائنات الحية لا تكمن أبدًا في كيفية تأمين نفسها، لكن في تطوير المرونة التي تمكنها من استيعاب الاضطرابات المختلفة في بيئتها. هنا يتساءل «إيفانز» و«ريد» عن النتائج المتوقعة عند تطبيق هذه الرؤية البيولوجية على التجمعات البشرية. وبما أن مفهوم الإنسان قد اختُزِل إلى محض الحياة البيولوجية عن طريق السياسة الحيوية النيوليبرالية (الضبط الحيوي – السياسي لسكان العالم)، وشجع الفكر البيئي على النظر إلى حياة الإنسان أنه نظام حي مثل أي نظام آخر، فإن التعرض للخطر والضعف أصبح يُنظر إليهما أنهما شرطان لحياة الإنسان، فالمشاركة في العالم ضرورية للحياة لكي تنمو وتزدهر!

يناقش المؤلفان مشكلة «المرونة» عبر صفحات الكتاب بوصفها «مشروعًا أيديولوجيًا» يتضمن تجريد الإنسان من أي إيمان بقدرته على تجاوز الحقيقة البيولوجية المجردة للوجود وتحقيق الأمن، فهو يتطلب من الأفراد التخلي عن قوة المقاومة للوضع الراهن، والتكيف على نحو متكرر مع ظروفهم، بالطريقة ذاتها التي تتكيف بها الأنظمة الحية كافة، إنه يتطلب باختصار أن نغير أنفسنا حتى يظل العالم على حاله، كما أنه يضع عبء الأزمات مباشرة على أكتاف الفقراء في العالم، إذ يستهدف السكان المعرضين للخطر على وجه التحديد ويجعل منهم إشكاليات من أجل السماح باحتوائهم الحقيقي، و”يحجب التمييز العنصري والثقافي بستار من دخان التقييمات الموضوعية للمخاطر!

على هذا النحو، تتعلق السياسة اليوم بالموت أكثر مما تتعلق بالحياة، وبالبقاء أكثر من اليوتوبيا. وغدًا ستتمحور السياسة بخصوص التسييس المشروع للموت، بخصوص اختيار من سيبقى على قيد الحياة ومن سيصبح مستغنى عنه كونه جزءًا من «فائض السكان» (Surplus Population). يمكننا أن نتوقع في العقود التالية أن السياسة لن تتعلق بالرفاهية والرخاء، بل بالبقاء في إطار معادلة الإقصاء المشروع، وقد يكون المُبرر أن الموارد المحدودة لا تترك لنا خيارًا سوى الجمع بين الاستهلاك (Consumption) والاستبعاد (Exclusion)!

إن الممارسات السياسية الكامنة في الديمقراطيات الليبرالية، تكتسب شرعية جديدة اليوم، فعلى سبيل المثال، كانت الثقة أمرًا أساسيًا للديمقراطيات، لكن الحذر اليوم والتباعد الاجتماعي والشك المتبادل استراتيجيات مشروعة للبقاء. لقد باتت الثقة تعني المخاطرة وليس الكرامة، وأصبح الشك سبيلًا للبقاء دون أن يعني الاستبعاد، «الآخر» لم يعد فئة سياسية، بل ممارسة اجتماعية ضرورية طبيعية أيضًا. وفي هذا الترتيب الجديد للعلاقات والمعاني، سيكون العنف الناجم عن كراهية الأجانب تفشيًا طبيعيًا، شأنه شأن الوباء، وليس استراتيجية سياسية واعية للذات.

لا عجب أن تتلقف هذه السياسة حكومات وأنظمة تتشدق كذبًا بالديموقراطية، وينخر الفساد في بنيانها، ولا يعنيها سوى اللقطة الموحية بالإنجاز الكاذب! عليك في ظل هذه الأنظمة أن تتعايش مع الفقر والفساد والجهل والمرض كونها مخاطر طبيعية وحتمية لا مفر منها، بقاؤك مرهونٌ بقدرتك على التكيف معها، وحياتك موقوفة على مدى قوة التصالح مع أوبئة العقل والجسد. وحتى على المستوى الإداري المؤسسي بدرجاته المتفاوتة، عليك أن تُصافح مشكلاتك بمفردك، وأن تُهزم عقليًا ومنطقيًا دون أن تنبس ببنت شفة! عليك أن تُهزم يوميًا، تنام وتستيقظ وتبدأ من جديد كأن شيئًا لم يكن! وعلى الإجمال، عليك أن تُدرك الرهانات السياسية والفلسفية للواقع الجديد، أن تكون مرنًا بتغيير نفسك بحيث تتعايش مع الوضع القائم بدلًا من تغيير هذا الأخير، أن تُدرك أن الأبعاد الروحية للحياة باتت أقرب إلى التصالح والتواؤم مع الموت منها إلى الفن والجمال، وأن تتقبل العدمية فلسفة أثيرة للدولة ورأس المال، فالمرونة المنشودة عدمية، وهي ليست فقط تحطيمًا للذات الواعية، بل مُنعطف حياتي يُشجع على قبول إرادة سياسية تؤدي إلى اللا شيء!

مقالات ذات صلة:

فضيلة المرونة الذهنية

إشكاليات السرديات الكبرى

التفلسف والتنمية الثقافية

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية