الكابوس
عبثا حاولت التخلص من شراك الأفكار السوداء التي ظلت تحاصرني طيلة الليل، فلم أستطع عنها فكاكا، ولا من براثنها خلاصا، آويت إلى فراشي بعد عمل شاق استمر لساعات طوال حتى شعرت بالإعياء، ومما زاد الطين بلة صوت زوجي الذي لم يكف عن الصراخ محذرا الأولاد، وموبخا إياهم علهم ينامون، فما فعلوه يكفي وعليهم الإذعان، وسرعة النوم حتى يستيقظوا مبكرا لمدارسهم.
ألقيت بجسدي المنهك على السرير أستغيث بالنوم، علني أجد ابن سيرين فينتشلني من أحلام شريرة، طالما عاشت معي وعشت معها في الفترة الأخيرة، أذكر أنني ظلت عمرا طويلا لا يعرف الحلم إليّ طريقا، حتى إبَّان شبابي ومراهقتي لم أكن أحلم،
وكان ذلك مما يضايقني ويقض مضجعي، حمدت الله كثيرا، فها قد بدأت أحلم مثل غيري من الناس، لكني ما كدت أحلم حتى رأيت كوابيس متكررة يوميا، بل ربما هي اختصار لحلم واحد أو كابوس واحد، موحش، مخيف، مفزع، مروع، رهيب، خانق، بائس، يائس، قبيح، فظيع!
الحلم المزعج
ولأنني قرأت في السيرة النبوية والآثار المحمدية أنه من الأفضل عدم سرد الأحلام السيئة على آحاد الناس، مخافة تأويلها ومن ثم إمكانية وقوعها، لذلك آثرت الاحتفاظ بها لنفسي، وأنا أجد لذلك ألما ممضا، وقسوة بالغة لا أستسيغها.
لكن ما العمل؟! فأنا أكاد أختنق كل ليلة، بل كل لحظة فيها، إذ لا يمكنني تحمل رؤية هذا الكائن الضخم، نعم، كائن ضخم غريب، ذو خلقة مزرية وشكل هلامي، له عيون حمراء، وأشداق بتراء، وجبهة مشقوقة، ورأس أشج، وأصابع حديدية، وأظافر فولاذية، يريد أن يلتهمني، يقترب مني أكثر فأكثر وأنا أهرب منه بعيدا بعيدا، وكلما هربت من ناحية، سَفَرَ لي من أخرى.
رباه! ما هذا؟ أنقذني يا الله، أنادي، أصرخ، وأصرخ، ولا أحد يجيب، أتأوه، ولا سميع، وفي إحدى المرات اقترب مني حتى كان قاب قوسين أو أدنى، وحينها تمالكت نفسي المبعثرة، ولملمت ما تبقى من روحي الضائعة،
ثم نظرت إليه عَلَّنِي أتبين ملامحه وأدرك تفاصيله، حدقت فيه أكثر وأكثر، فإذا له أكثر من وجه، نعم أكثر من وجه، وكلما أعدت النظر إليه ظهر لي بوجه أكثر قبحا، وأشد دمامة ورعبا مما سبق.
زيارة إلى الطبيب
أصابني التعب ولفَّنِي الوصب، وحينها لم أطق صبرا، فتحدثت مع بعض الأصدقاء عن الأرق الذي يلازمني طول الليل، والسهد الذي لا يبرحني، ولم أحدثهم بطبيعة الحال عن ذلكم الكابوس الذي يجثم على صدري يوميا،
فأشار كل منهم بنصيحة مختلفة عن الآخر، بالتأكيد فقد شكرت لهم اهتمامهم بحالتي، وقد حاولت جاهدا أن أعمل بنصائحهم قدر استطاعتي، كنت كالغريق الذي يتشبث بأي شيء حتى ينجو مما هو فيه.
أشار علي بعضهم أن حالتي تحتاج إلى طبيب، خصوصا وأنني قد ظهر علي الإعياء وشدة التعب، ومن ثم فحالتي تلك تحتم الالتجاء إلى الطبيب، فهو وحده القادر على فك شفرة ما أنا فيه، وبالفعل توجهت إلى طبيب تجمعني به صداقة قديمة وشرحت له حالتي،
فنصحني بدوره بتناول بعض العقاقير، حيث رأى أن الموضوع لا يتعدى بعض الإرهاق، ومن ثم يحتاج إلى بعض المقويات التي لم تُجدِ نفعا للأسف، بل إنني لاحظت أن حالتي قد زادت سوءا، خصوصا وأنه كتب لي على بعض المهدئات التي ضغطت على أعصابي أكثر، وأضعفت من تركيزي حتى خارت قواي، وهمد جسمي، وكدت أهلك من تهرؤ حالتي الصحية.
اقرأ أيضاً:
الإسقاطات اللي في الأحلام دي ليها إشارات في الواقع؟
علاج الألم النفسي .. من أين نبدأ؟
هل من العيب الذهاب إلى طبيب نفسي؟
ولما لم يُجدِ الطبيب نصحني آخرون أن أذهب إلى طبيب نفسي، نعم طبيب نفسي، فالمشكلة عندي بالتأكيد هي نفسية لا جسدية، هكذت زعموا، ثم أردفوا أن الحياة مليئة بالصعاب، وقد كثرت المشاكل في البيوت وتنامت في العمل وتضخمت في الشارع، مما انعكس ذلك بطبيعة الحال على نفوس الناس وانسكب في أرواحهم.
وبالفعل فقد فكرت برهة من الوقت أن أذهب إلى أحد الأطباء المشهورين، بيد أن هذه الفكرة ما إن طرأت على ذهني حتى طردتها فورا، فتلك لعمر الله قاصمة الظهر، إذ سيدندن الناس حول حكايتي وذهابي إلى الطبيب، وسأكون أمثولتهم، وأستحيل إلى مضغة يلوكونها في مجالسهم ليل نهار، ومن ثم لا يملون من تردادها في محافلهم.
نعم سأكون حديث المدينة، سيتحدثون بشأني، ويخوضون في أمري وخبري، سيغتابون، وينمون، وسيقولون، ويقولون، ويقولون: هل أصيب بالجنون؟! هل أصابته لوثة في مخه؟ هل اختل عقل المسكين؟ هل؟ وهل؟ وهل؟
وسيؤثر ذلك حتما على مركزي الاجتماعي، وموقعي الوظيفي! سحقا لهذي الفكرة السيئة، يبدو أن من أشار علي بهذه الفكرة الأثيمة يكرهني، نعم يكرهني، ويريد أن يدمرني ويدمر مستقبلي، بالتأكيد لا يروم لي الخير، حتما ذلك، وإن أبدى التعاطف وأظهر الحب والموالاة.
هل العلاج بالقرآن هو الحل؟
لقد بلغ مني التعب مبلغه، ولا بد من إيجاد وسيلة سريعة لتخفيف ما أنا فيه، فالكابوس يحاصرني والغول يجثم على صدري كل ليلة، وبينا أنا كذلك، قلت في نفسي: “إنه صديقي محمود وليس غيره، نعم بالتأكيد سيكون عنده الحل، لا بد أن يكون عنده الخلاص”، وما إن سمع حكايتي حتى أشار علي بالذهاب إلى أحد المشايخ المشهورين في العلاج بالقرآن، هكذا قال –لا سامحه الله–.
لكن هذه الفكرة ما إن طرأت على ذهني حتى طردتها فورا، نعم طردتها، لقد خفت على نفسي، نعم خفت أن يمسك بي هذا الشيخ ويظن أن بي مسا من الجن!
أو أنني ملبوس من الشياطين والعفاريت، إنه لن يظن بل سيتأكد، وحينها سيجد طِلبته، ومن ثم سيحاول إخراجه مني قدر طاقته وبكل وسائله، حتى يثبت للجميع مقدار علمه اللدني وفيوضاته الروحانية، وكيف أنه يستطيع ترويض الجن وتسخير العفاريت.
وقد يظن هذا الشيخ في نفسه أنه أفضل من أبي مصعب المغربي أو الباهي السوداني، وحينئذ سيوسعني ضربا ويشبعني لَكْمًا، يفعل ذلك وهو يعتقد أنه يؤدي مهمة دينية جليلة، قد حار فيها الأطباء، واختلط فيها الألباء، لا، لا، لقد خفت على نفسي،
نعم خفت أن ينفرد بي هذا المدعو ولا يتركني حتى الموت، وعلى أحسن الأحوال، وهذا وارد، فإن الجن المغلوب على أمره ربما إذا أراد أن يخرج راقت له عيني اليمنى التي لا أرى إلا بها، فأفقدها هي الأخرى!
حالة غريبة مرعبة
رباه! يا الله! أنقذني مما أنا فيه، فلم أعد أحتمل، لا هذا الكابوس الذي يلازمني، ولا هذي الحلول المزعجة التي لا تجدي، إذن الحل هو مقابلة ابن سيرين ذاته، فيقوم بتأويل رؤياي، وينقذني من هذا الكابوس!
ظلت على هذه الحال فترة طويلة من الوقت لا أعلم مداها ولا أدري مقدارها، حالة غريبة مرعبة فظيعة، شيء لا يطاق، غدوت شخصا آخر لا يعرفه الناس ولا أعرفه أنا، بينما شرنقة الأفكار تضغط أكثر فأكثر، وأنا أتمزق شيئا فشيئا، جربت قراءة القرآن، نعم فعلت، هدأت قليلا لكن الأرق بدأ يعاودني مرة أخرى.
رباه! لماذا استجبت لي، لا، لا أريد أن أحلم ثانية، نعم، لا أريد أن أحلم مرة أخرى، فأنا راض عن واقعي حتى وإن كان مؤلما، فيبدو أنه أفضل من هذه الكوابيس، ويبدو أنني قد أخطأت إذ توهمت أنه بمقدوري أن أحلم مثل كل الناس،
وأن خلاصي سيكون في الحلم، وفجأة استيقظت على نداء زوجتي وهي تقول لي: ما بك؟ لقد كنت تهذي طيلة الليل، نظرت إليها، محدقا في ملامحها، ولم أنبس ببنت شفة.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا