مقالات

التجربة الجمالية وأخلاقيات الممارسة الكيميائية .. الجزء الرابع

ما زلنا في إطار البُعد الجمالي للنماذج الجزيئية، إذ يلفت الكيميائي الأمريكي المعاصر «جوكم سكامر» (Joachim Schummer) انتباهنا إلى نظرية جمالية مشهورة، تصلح لأن تكون إطارًا تفسيريًا وافيًا ومعقولًا لسمات الجمال الممكنة للنماذج الجزيئية كافة، ألا وهي نظرية الفيلسوف والأديب الإيطالي«أمبرتو إكو» (Umberto Eco – 1932) في الرسائل الجمالية (Aesthetic Messages)، التي تقوم على فكرة العلاقة بين التوتر (Tension) أو الغموض التفسيري المكتنف للنسق الفني، وما يؤدي إليه من رؤى إبداعية جديدة تثيرها التجربة الجمالية من كمونها. حقًا لقد وضع «إكو» نظريته تلك معيارًا لجمال النص الأدبي بالتحديد –إذ يُصنف نفسه أديبًا منذ عام 1980– إلا أنها يمكن أن تشمل أيضًا، وبالقوة ذاتها، عالم النماذج الجزيئية في الكيمياء. وتبرير ذلك أننا يمكن أن نُقسم جزيئات الكيميائيين الجميلة –أو ذات الجاذبية الجمالية– إلى فئتين تقريبًا: تلك التي تنطوي على قدرٍ كبيرٍ من التماثل بالمعنى الأفلاطوني، وتلك التي تبدو مشابهة لما نألفه من أشياء وموضوعات في حياتنا اليومية، والفئة الأخيرة من الجزيئات، أو بالأحرى ما يمكن أن نسميه «تمثيلات الكيميائيين الجرافيكية» (Graphical Representations)، تلتقي مع شروط الجمال عند «إكو»، فالسبب الوحيد لما يجده الكيميائيون من جمال في تلك التمثيلات –فيما يزعم «سكامر»– هو ذلك التوتر الجمالي المكتنف لدلالتها، أعني في كونها تشير إلى عالم الجزيئات الكيميائي من جهة، وعالم الأشياء المألوفة في حياتنا اليومية من جهة أخرى، وهو التوتر الذي لا يلبث أن يُصبح قوة محركة ودائمة للبحث الكيميائي.

يزيد «سكامر» الأمر وضوحًا بتعبيرات «إكو» ذاته: ففي اللحظة التي تتصاعد فيها لعبة التفسيرات المشتبكة، نجد النصوص قد ألزمت المرء بأن يتأمل –ويعيد تأمل– الشفرات المستخدمة في الرسالة اللغوية وإمكاناتها، ومن ثم تزداد معرفة المرء بما تحمله تلك الشفرات من تعددية إشارية. وفي حين يحدث ذلك، فإن التجربة الجمالية تتحدى التنظيم السائد للمحتوى، وتقترح تنظيمًا مختلفـًا للنسق السيمانطيقي، به تتغير رؤيتنا الثقافية للعالم. ولا شك أن الجرافيك الكيميائي لا يؤدي إلى تغير رؤيتنا الثقافية للعالم، لكنه على أية حال يؤدي إلى تغير رؤية الكيميائيين لعالم جزيئاتهم، وهو تغير يفتح مجالات جديدة للبحث، تثيرها التجربة الجمالية التي يعايشها الكيميائي إزاء غموض نماذجه الجزيئية. ويضرب «سكامر» مثالًا لذلك بظهــــور الكيمياء فــــوق الجزيئية (Supramolecular Chemistry)، إذ هي نتيجة مباشرة لما يكتنف الجرافيك الكيميائي من غموضٍ مُنتج، فالتحول من الكيمياء الجزيئية إلى الكيمياء فوق الجزيئية –المدعوم حديثًا بالنانوتكنولوجيا (Nanotechnology)– تغير في الطريقة التي يرى بها الكيميائيون عالم جزيئاتهم. لقد كانت أية صيغة بنائية في النسق السيمانطيقي الكلاسيكي للكيمياء الجزيئية ذات دلالة محددة ومعروفة، إذ تُعبر عن خواص كيميائية لمركب مفرد، تُستَكمل بميكانيزمات التفاعل التي تشير إلى كيفية تكسير وبناء الروابط في التفاعلات المختلفة، أما في النسق السيمانطيقي الجديد للكيمياء فوق الجزيئية، فقد باتت الجزيئات مزودة بخواص جديدة نألفها فقط في حياتنا اليومية، فبالإضافة إلى القواعد المتواضع عليها للروابط الكيميائية، يمكن الآن للجزيئات أن تترابط كحلقات سلسلة ما، وأن تستقبل وتنقل السلع كالسلة، وأن تـُوظف كأجهزة ميكانيكية كالدّوَّرات في أية آلة، وأن تستقبل وتخزن وتنقل المعلومات، بل وأن تدرك بعضها، وتتواصل فيما بينها، وتنجز مهام البناء العضوي الذاتي في الكائنات الحية!

التجربة الجمالية وأخلاقيات الممارسة

(بعض النماذج الجزيئية المستوحاة من السلّة، والآلة الدوَّارة، وحلقات السلسلة، وكرة القدم، وهذه الأخيرة تمثل جزيء الفولرين).

هكذا تتعدد الرؤى الجمالية لفن بناء الجزيئات في الكيمياء، وتتسع نسبيًا لأكثر من نظرة جمالية: من علم الجمال المثالي الكلاسيكي بموروثاته الأفلاطونية، إلى الإبداع الجمالي التراكيبي والسيمانطيقي وفقـًا لنظرية «جودمــــان» في الوظائف الرمزية للغة، إلى نظرية « إكو» السيميوطيقية في الرسائل الجمالية، إلخ. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل –كما ذكرنا– على كثافة الفن الكيميائي وتنوع أبعاده وتجاربه الجمالية، الأمر الذي يدفعنا إلى الزعم بأنه الفن الجديد والشامل للقرن الحادي والعشرين، الذي ما زالت أبعاده المأمولة تتكشف يومًا بعد يوم، وساعة بعد أخرى.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ثالثًا: التمثيلات الحاسوبية: ميلاد فن معاصر

من حينٍ إلى آخر، تعرض المتاحف والمكتبات الكبرى رسومات تشريحية ومنقوشات ذات دلالة علمية موروثة من عصر النهضة. وإذا كانت هذه الأعمال الفنية تتسم بجمال محسوس بارز، فهي بالمثل تمنح العقل المتأمل إحساسًا باللذة، ذلك أنها تشهد على وحدة نفتقدها الآن كثيرًا بين العلم والفن في زمن ميلاد العلم الحديث. فهل تمنحنا الكيمياء المعاصرة فرصة مماثلة لاستعادة هذه الوحدة المفقودة؟

الحق أننا لا نستطيع الإجابة بالنفي، فمنذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين ونحن نشهد ثورة جمالية يحمل لواءها علم –أو فن– بناء النماذج الجزيئية، وهي ثورة تُقدم لنا أيضًا توصيفات تشريحية كتلك التي أبدعها فنانو عصر النهضة، لكنها توصيفات لكيانات ميكروسكوبية متناهية في الصغر، كيانات تشغل مكانًا جديدًا نصفه بالنانوسكوبي (Nanoscopic)، حيث البروتينات والإنزيمات بأبعادها التي نُعبر عنها بمقياس «النانو». إن ما يقرب من عشرة آلاف بنية بروتينية تعمر بالفعل هذا العالم، ومع كونها نانوسكوبية، فإنها مع ذلك ثلاثية الأبعاد، تمامًا كالمكان العادي المرئي بالعين المجردة. وكل بنية من هذه البنى مؤلفة من آلاف –إن لم تكن عشرات الآلاف– من الذرات، منتظمة في طوبوجرافيا (Topography) مميزة ودقيقة وفريدة.

لعل أقوى دعم يلقاه هذا الفن الجديد هو ذلك الذي تقدمه تكنولوجيا الحاسب الآلي والوسائط المتعددة، فبنوك المعلومات المتاحة في الويب تحفظ الإحداثيات الممكنة كلها لمختلف النماذج الجزيئية، ومن ثم يمكن لأي منا سريعًا أن يبني صورًا ذهنية لأشكالٍ لم ترها من قبل عين إنسان! وبالإضافة إلى ذلك فإن كلًا منا حرٌ في اختيار هذا التمثيل (Representation) أو ذاك من بين جملة من الخيارات التي تقدمها البرمجيات الحاسوبية (Software)، من الممكن مثلًا لأي منا –في أي وقت شاء– أن يتوجه عبر شبكة الإنترنت إلى بنك معلومات مثل PDB (بنك معلومات البروتين Protein Data Bank) في معمل بروكهافن القومي (Brookhaven National Laboratory) بالولايات المتحدة، ويُحمِّل إحدى البنى أو النماذج الجزيئية المتاحة لعرضها على حاسبه الشخصي، ومن ثم يصبح لديه مسرحه الخاص للصور المتحركة، فبدلًا من أن يكون متلقيًا فقط لفنٍ يقدمه الآخرون، بات بإمكانه التعامل بحرية مع مادة فنية يخلع عليها مزيدًا من إبداعاته الخاصة، يُلقي عليها ما يروق له من ألوان وأضواء وظلال، يعيد تحرير مختلف الأسطح والجوانب تكبيرًا وتصغيرًا، يجعلها تدور وتتعثر حول هذا المحور أو ذاك، وأخيرًا يبحث عن أكثر أجزائها إلفـًا له. وبهذه الطريقة يمكن لأي منا أن يكون فنانًا متدربًا في ورشته الإبداعية الخاصة، رسامًا أو نحاتًا يبحث عن هويته بين نماذج وتصميمات لا تأبى الخضوع لتمثيلاته النوعية المميزة.

التجربة الجمالية وأخلاقيات الممارسة

(بعض النماذج للبنى الجزيئية المصممة باستخدام البرمجيات الحاسوبية)

الفريد في الأمر، أنه على الرغم من الطابع المجازي لهذا الفن، فهو –وفقـًا للمعتقد الكيميائي– مشتق من الدراسة العلمية للطبيعة، وعليه فهو يقدم تمثيلات للواقع الموضوعي، تمثيلات كتلك التي يقدمها فن المعمار، وإن كان معمارًا نانوسكوبيًا للحياة، نستشرف به واقعًا جديدًا لم نألفه من قبل، واقعًا وُجد ليحمل واقعنا المرئي، وبه من العجائب ما قد يفوق توقعاتنا العلمية في المستقبل القريب. ألم نقل إنه فن القرن الحادي والعشرين؟!

يتبع…

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية