حكايات حول العدالة .. قراءة في كتابات قاض وشهاداته _ الجزء الأول
هل المحاكمات بوسعها أن تتفادى القصص؟ إنها تتجلى كثيرًا كحكايات كُتبت في سجلات المحاكم وأضابيرها، أبطالها الجناة والمجني عليهم وممثلو الدفاع والقضاة الجالسون على المنصات ليضعوا سطر النهاية، مكانها معروف ومحدد ومتوارث ومتكرر، وزمانها هو كل العقود والقرون التي عرف فيها البشر مؤسسات العدالة الحديثة بمبانيها ومعانيها ومراميها!
إن مجموع هذه القصص يحمل في باطنه وظاهره معًا مسار العدالة ومصيرها في بلد ما، ويرسخ معالم الخبرة القانونية، التي تصقل فهم اللاحقين مما تركه السابقون في الأقوال والأفعال، من حيل المحامين وحججهم، وبصائر القضاة وتقديرهم، وألاعيب الجناة ومكرهم، ونزاهة الشهود وتزويرهم.
هذه الأطراف الأربعة، المتنازعون والمدافعون والذين ينفوون التهم أو يثبتوها ومن يقضون بينهم، تتكرر في القصص، أركانًا ثابتة، إذ لا تخلو منها تقريبًا أي حكاية في قضية، لكن الحكايات مختلفة بين الأمكنة والأزمنة والثقافات والجهات والطبقات والبيئات الاجتماعية عمومًا.
من أروقة المحاكم
تخرج هذه القصص على الألسنة من أروقة المحاكم ومكاتب المحامين إلى ساحة المجتمع الرحيبة، فتتردد على ألسنة كل المشتبكين مع العدالة في علاقة ما، وترسم خط العدل في المجتمع، بين راضين عنه، وساخطين عليه، ومتشككين فيه. وهذه الحالات النفسية والعقلية الثلاثة قد لا يمكن البرهنة عليها عند أصحابها إن تجنبوا الحكايات تمامًا.
إن الناس يسعون إلى المحاكم مقبلين أو مترددين، وفي رؤوسهم نصف الحكاية التي صنعتها القضية التي يهتمون بها، ثم يجلسون في قاعات ناظرين إلى المنصة بقضاتها، والصف الأول بمحاميه، والقفص بالمتهمين، منتظرين أن يضيفوا إلى الحكاية نقلة جديدة، قد يكون استرجاعًا أو استباقًا في مجريات المحاكمة، وقد لا يعدو أن يكون توسعة وإفاضة في التفاصيل، انتظارًا لجلسة أخرى، يحدث فيها تقدم إلى الأمام، وأحيانًا تظهر حقائق تعيدها إلى الخلف.
القضية وإن كانت واحدة في أوراق المحكمة فإنها تدور في أذهان هؤلاء الساعين بطرق متعددة، فكل منهم يمثل “المتلقي” أو “القارئ” الذي يستقبل سير القضية بفهمه ومصلحته وطريقته في التقييم، وما يتمناه لها من نهاية، والتي تتناقض بين الذين هم من أهل الجاني، والذين هم من أهل المجني عليه، أو تتفاوت بين الواقعين في المنتصف من الأقارب أو الجيران، أو حتى أولئك الذين يهوون حضور المحاكمات من الجمهور العادي، وأوسعه أولئك الذين يتابعون أخبارها في الصحف لبعض القضايا، التي قد تتقدم ذيوعًا لتصير محل اهتمام الرأي العام.
قصص لا تنتهي
إن القصص لا تنتهي في كل صنوف المحاكمات والتقاضي، سواء كانت تتعلق بالأحوال الشخصية أم القضايا المدنية والجنائية، وقد يلعب قانون الإجراءات هنا الدور الذي تمارسه الحيل الفنية التي يوظفها الأديب في سبيل صناعة المفاجأة والدهشة والثغرة، التي يستخدمها في إحداث النقلة التي تسهم في تطوير الحكاية إلى الأمام.
إضافة إلى هذا فإن بعض المخالفات والجنح والجرائم يقوم المخططون لها ومنفذوها بصناعة سيناريوهات مسبقة، يتخذ فيها هؤلاء موضع المؤلفين، ويتركون نهايتها مفتوحة، دون أن يدروا، فلمَّا ينكشف أمرهم، يأتي من يضيف إليها خلال المحاكمة، بينما هم يقفون أحيانًا عاجزين عن المساهمة في هذه الإضافة، أو مندهشين حيالها.
مما يعطي هذه القصص أحيانًا جانبًا من “الأدبية” أو الشروط الفنية للإبداع الأدبي، تلك البلاغة التي تنطق بها أحيانًا أفواه الدفاع وأقلامهم، وكذلك ألسنة القضاة في تعليقاتهم وصياغتهم لحيثيات الأحكام، ومن المؤكد أن الطرفين يخرجان فيما بعد ليتحدثا، بطريقة مختلفة، في حياتهم الخاصة، مع ذويهم وأصدقائهم، وبعضهم قد يقوم بتسجيل وصياغة هذه الحكايات.
اقرأ أيضاً: تطور مهنة القضاء الواقف “المحاماة” في الحضارة اليونانية القديمة
تعرف على: أخطاء القاضي!
اقرأ أيضاً: حرفة الأدب
من الذي يكتب قصص المحاكم والنيابات؟
إن صورة العدالة في أية دولة لا تتجسد فقط في الدستور والقوانين ودقة ونزاهة الأحكام وتوافر شروط التشريع والتقاضي، إنما يصنعها أيضًا إدراك الناس لها، وحديثهم عنها، الذي يأتي غالبًا في شكل حكايات أو قصص.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا: من الذي يكتب القصص التي تزخر بها المحاكم والنيابات العمومية؟ وبأي طريقة تُكتب؟ وما الحدود الفاصلة بين الواقعي والتخييلي فيها؟ وهل يمكن الاعتماد عليها مصدرًا أصيلًا في التأريخ للمحاكمات؟ أو علم الاجتماع الجنائي؟
إبتداء فإن كثيرًا من الأدباء جاءوا من بين وكلاء النائب العام والقضاة، بعضهم ترك هذه المهنة متفرغًا للأدب مثل توفيق الحكيم، وهناك من ظل يجمع بين المسارين، فكتب أدبًا ليس بالضرورة له علاقة بمهنته مثل أشرف العشماوي، وهناك فريق ثالث وجد نفسه أمام نهر من الحكايات المتنوعة المنحدرة من بيئات اجتماعية متباينة، بعضه يفوق خيال أي روائي أو قاص، فعمل على تسجيلها من واقع مشاركاته أو مشاهدته أو مطالعاته، مثل المستشار بهاء المري.
المستشار الأديب بهاء الدين المري
ما أنتجه الأخير من كتب تحوي حكايات وقصصًا للجناة والشكاة والضحايا جعله يشق طريقًا واضحة، يوسّعه ويعبده على مهل، بتوالي إصداراته مثل “حكايات قضائية.. صور من حياة الأرياف” و”أغرب المحاكمات.. يوميات قاض” و”من المشرحة.. يوميات وكيل نيابة”، وهي كتب بينها من المتشابهات والمختلفات كثير، متفاوتة في رحلة انتقالها من التأريخ والتسجيل بلغة لافتة إلى السبك والتخييل، الذي يعني أن “المري” قد تأمل ما خبرها جيدًا من قضايا، وأعاد صياغتها وتشكيلها وتلوينها ناقلًا إياها من اللغة التقريرية المنضبطة الدلالة والإحالة التي يلتزم بها كاتبو المحاكم إلى اللغة المشحونة بالصور والمجازات.
كما أنه لم يقيد نفسه بما يكتبه قاض من تقرير أو حيثية أو حكم يمضي فيه على خط يبدأ بنقطة معينة ويتقدم إلى الأمام، إنما راح يستبق ويسترجع أو ينطلق من منتصف الحكاية أو حتى من نهايتها، وينهيها بمفارقة مدبرة منه مثل كاتب يميل إلى إدهاش قارئه.
نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*********
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا