مقالات

تطور مهنة القضاء الواقف “المحاماة” في الحضارة اليونانية القديمة

لا يمكن الاستغناء عن مهنة المحاماة، وقُدرات ممارسيها من المحامين الحاذقين، ولكنها ارتبطت في أذهان العامة بالنزاعات والخصومات، وفي أذهان المتقاضين بدفع أموال (أتعاب) باهظة مُرهقة لكواهلهم.

وقد تمتعت مهنة المحاماة على مر العصور ولدى كافة الشعوب باهتمام بالغ ورعاية عظيمة، لأنها والقضاء ينشدان تطبيق العدالة، فالقُضاة هم القضاء الجالس والمحامون هم القضاء الواقف، وكلاهما ينشدان تحقيق العدالة وإعطاء الحقوق لأصحابها في رحاب العدالة المقدس.

نظرة الشعب اليوناني القديم والرومان الأقدمين إلى المحاماة والمحامين

وقديمًا اعتاد الشعب اليوناني القديم النظر إلى المحاماة والمحامين نظرة احترام وتبجيل، وصونًا لمكانتها وصيانة لكرامة ممارسيها أصدر اليونانيون تشريعًا يمنع العبيد من ممارسة تلك المهنة، فهي مهنة الحاذقين من أصول أرستقراطية، وذوي المكانة الاجتماعية السامية في المجتمع اليوناني،

وتأسيسًا على ذلك فقد اعتادت الحكومات اليونانية القديمة على إسناد الوظائف العليا في البلاد إلى هؤلاء الذين يمارسون مهنة المحاماة، وبسبب ثرائهم وعدم حاجتهم فقد كانوا يمارسون تلك الوظائف تطوعًا، ودون الحصول على أتعاب أو مرتبات نظير خدماتهم العامة تلك.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وعندما نأتي إلى الرومان الأقدمين نجدهم وقد نظروا إلى مهنة المحاماة نظرة فخر وإعزاز، حتى أنهم رفعوا ممارسيها إلى مكانة سامية رفيعة، فرغم التكوين العسكري للإمبراطورية الرومانية وإيمانها الشديد بالسلاح والقتال،

ومنحها رجال الجيش كافة الحقوق والامتيازات، فقد رأت أنه لا فرق بين المدافعين عن الوطن بالسلاح وهؤلاء الذين يدافعون عن حقوق الناس بلسانهم وأقلامهم، فكلاهما مُدافع ومُقاتل، ومن ثم يجب المساواة بينهما ومنحهما كافة الحقوق والامتيازات وإعلاء مكانتهما في المجتمع.

مظاهر الاهتمام بمهنة المحاماة وممارسيها في بلاد اليونان القديمة وروما

وفي بلاد اليونان القديمة، وروما من بعدها، انتقل مفهوم التشريف والتعظيم من المهنة وممارسيها إلى مقر اجتماعاتهم وانعقاد جلسات التقاضي، حيث حرص اليونانيون على توفير كل سُبل التقاضي أمام المتقاضين،

فكانت المحاكم من البنايات ذات الاهتمام ومن أولى المنشآت التي يحرص اليوناني القديم على بنائها في مدينته، مثل بنايات المجالس التشريعية والمعابد والمسارح، وكذا اختيار القُضاة والمُحلِّفين، والنأي بهم من أية شائبة تشوبهم أو تشوه سمعتهم وتُسيء لهم.

لقد كان مكان اجتماع المحامين والقضاة مكان مُقدس لدى اليونانيين الأقدمين، ومن ثم فقد اعتادوا على رش المحاكم بماء طاهر تعبيرًا عن قُدسية المكان وطهارته، فهو مكان بعيد كل البُعد عن الأعمال والأقوال الفاحشة الدنسة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وتأكيدا على طهارة وقدسية التقاضي والمحاماة والمحاكم فقد حرص اليونانيون على عقد جلسات وإجراءات التقاضي في يوم واحد، وذلك تجنبا للفساد والقضاء على الرشوة، ومنع تواصل الراشين والفاسدين بالمحلفين والقضاة وشرائهم. وبهذا يتم توفير فرصة سانحة للمتقاضين بعرض قضاياهم والحصول على أحكام شافية برد حقوقه إليهم.

تطور المهنة مع زيادة عدد سكان المدن اليونانية

ومع زيادة عدد سكان المدن اليونانية وكثرة القضايا المنظورة أمام القضاة والمحلفين فقد اضطر النظام القضائي إلى إلزام المتقاضين بتقديم خطبة مكتوبة بواسطة خطيب “Rhetor” ماهر حاذق في توظيف الكلمات والتعبيرات ذات الأثر الطيب على النفس والعقل،

ورويدًا رويدًا تم السماح بإلقاء تلك الخطب أمام المحلفين بواسطة كاتبيها وليس المتقاضين أنفسهم، ومع مرور الوقت صار هؤلاء الخطباء “Rhetors” الكتبة هم أنفسهم المتحدثون “ paráklētos” المدافعون عن حقوق المتقاضين أمام القضاة.

ولم يكن المتقاضون يمنحون أموالًا للخطباء، نظير مجهودهم في كتابة الخطب والمرافعات آنذاك، ولا حتى بعد السماح بدخولهم ساحات المحاكم وإلقائهم مرافعاتهم وخطبهم،

فهؤلاء الخطباء المترافعون “sundikes” متطوعون راغبون في استعراض مهاراتهم الخطابية، وقدراتهم على التأثير في المحلفين والقضاة، حتى أن العامة من الشعب كانوا يذهبون إلى ساحات المحاكم للاستماع والاستمتاع بتلك الدفوع والخطب والتباري بين الخطباء واستعراض قدراتهم الدفاعية ومهاراتهم البلاغية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

ومع انتشار وازدياد عدد المترافعين من المحامين “dikanimes” فقد أرست القوانين والتشريعات اليونانية القديمة دعائم الإجراءات القضائية مع توضيح حقوق وواجبات المحاماة، ومن ثم التدابير الواجب اتخاذها إزاء المحامي الذي يخل بالتزاماته الدفاعية ويخل بالقوانين “paranomes” ومهنة المحاماة وقدسيتها.

كيف تحولت المهنة إلى مصدر للكسب المادي؟

لقد تخطت مهنة المحاماة في الحضارة اليونانية القديمة حدود الدفاع عن حقوق الموكلين من الأفراد ورد الحقوق إليهم، حيث أضحى للمحامي “sunegoros” الحق في الدفاع عن مصالح الوطن في أوقات الأزمات وضرورة مناصرته، وتقديم خطبته ودفوعه أمام المجالس التشريعية والجمعيات العامة،

فالمحامي اليوناني القديم كان يتقدم طواعية للدفاع عن حقوق الوطن كما كان يتقدم طواعية للدفاع عن حقوق الأفراد عندما يطلبون منه الدفاع عنهم ورد مظالمهم.

لقد كانت تلك المهنة العظيمة يقوم بها المحامون أمام المحاكم دون أجر حتى أتى خطيب أثيني يُدعى أنتيفون “Antiphon” (480-411ق.م) في القرن الخامس قبل الميلاد، واتفق على أتعاب مع طالبي خدماته الدفاعية ونظير مرافعته أمام القضاة، حتى غدت من بعده عُرفًا، وهكذا تحولت مهنة المحاماة في بلاد اليونان من رغبة في استعراض المهارات اللغوية البلاغية إلى مهنة، ومصدر للكسب المادي في بلاد اليونان وكافة البلاد وعلى مر العصور.

اقرأ أيضاً:

الأضحية في تراث اليونانيين الأقدمين

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مفهوم السعادة في الفكر الفلسفي اليوناني

دور حضارات الشرق القديمة في بناء الفكر الأخلاقي عند اليوناني

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د صلاح السيد عبد الحي

أستاذ دكتور بقسم الدراسات اليونانية واللاتينية بكلية الاداب جامعة سوهاج. ومدير مركز حضارات البحر المتوسط.

مقالات ذات صلة