علم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

امتحان الأخلاق وأبعاد الكون التسعة!

“غريب وضعنا على الأرض، كل منا يأتي في زيارة قصيرة لا يعرف لماذا؟ لكن في بعض الأحيان يبدو أن هناك سببًا مقدسًا”، هذه الكلمات منسوبة إلى أينشتين (ت/1955م) عالم الفيزياء المعروف، وتساؤله العلني هذا مع تفسيره في نهاية الأمر إلى أن السبب في الأغلب سبب مقدس، يشير إلى مفهوم المعنى والغاية.

الرجل في حقيقة الأمر كان مؤمنًا، وكان يشعر بالعجز التام أمام ما ساعده تخصصه العلمي في الوصول إليه من الإبداع المطلق في عملية الخَلق والانتظام المطلق في حركة الكون.

لم يتوصل أو قد يكون توصل في النهاية إلى مفهوم “الغيب”، بمعناه الديني والإيماني، وهو الذي يعد أول صفة من صفات الاهتداء والتقوى الذي يتصف بهما أهل الشرق وكل المؤمنين بالإسلام دينًا.

المفهوم الذي هو بالأساس مفتاح كل المغاليق في “اللغز الإنساني”، والآية الكريمة التي تذكر “وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ” سورة الحج (37)، تطيح بهذا اللغز بعيدًا وتضع الإنسان في مستقره المطمئن تمامًا، وتتحقق ويتحقق ويحقق بها معنى وجوده.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الكون فكرة عظيمة

د/ مصطفى مشرفة (ت/1950م) رحمه الله، أحد أهم علماء العالم في الفيزياء الذين أنجبتهم مصر في مرحلة ما قبل يوليو 1952م، نقل في أحد كتبه أظنه “العلم والحياة” أن أينشتين كان يقول له دائمًا أن الكون فكرة رائعة، وهو بالفعل كذلك، وعلى فكرة أينشتين ود/ مشرفة كانا صديقَيْن.

الحديث يدور الآن –بعد البحوث المضنية في نظريات الكم– أن “الفكر يغير المادة” ويؤثر في الواقع وفي كل مسار الكون، وأن مراقبة العقل لسلوك الجزيئيات الدقيقة وهي تسبح في الوجود، يجبرها على التحدد في الزمان والمكان، وبناء عليه الخروج إلى الوجود.

نظرية “الأوتار الفائقة” أكدت أننا نرى الحقيقة على هذا النحو لأننا نعتقد أن الكون يتشكل من ثلاثة أبعاد، لكن النظرية تتحدث عن “تسعة أبعاد” ملفوفة في ثنايا الكون، وأن المخلوقات التي تعيش في هذه الأبعاد ترى الحقيقة كما هي وبرؤية مختلفة عنّا، كموجات تبثها أوتار فائقة في إطار تناسق كوني هائل.

حقيقة الوجود

نظرية وحدة الوجود 890x395 c - امتحان الأخلاق وأبعاد الكون التسعة!

الأروع والأروع أن الحديث الآن يدور في هذه الأبحاث أن الشمس مخلوق واعٍ ولا تتصرف كأنها مادة خاملة، بل قوة فاعلة ونشطة، وأنها وبقية النجوم تمتلك وعيًا مثل الوعي الإنساني وتستخدم هذا الوعي من أجل البقاء والاستمرار.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أطفالنا في الكتاتيب –من زمان على الأقل– كانوا يحفظون عن ظهر قلب الآية الكريمة “ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)” سورة فصلت، قبل أن يقول لنا ذلك أصدقاؤنا في معامل فيزياء الكم، يعني كانوا مؤمنين مطمئنين بأن الكون فكرة رائعة دون شروح لا تخصهم في مهمتهم السريعة في هذه الحياة.

رحم الله د/مصطفى مشرفة وآلبرت أينشتين، وكل من تيقن من حقيقة وجوده وتصرف في حياته على أساس من هذا اليقين.

لكن ما علاقة هذا الكلام الغيبي أبو تسع أبعاد بموضوع الأخلاق وامتحان الأخلاق؟!

الإيمان ودوره في توجيه الأخلاق

إنه في الصميم من الموضوع، لأنه لا بد لنا من الالتفات إلى الشيء الذي يتعلق به الموضوع، هكذا يقول الوعي بالأمور، وموضوع الأخلاق يتعلق تعلقًا كليًا بالإيمان بالغيب، أو بأن الكون فكرة رائعة!

لا تعجُّب هنا ولا استنكار ولا جدل بيزنطي، فكلنا نعلم أن في الرخاء كل الناس سواء، وأن المسألة في الاختبار والمحك تحتاج إلى قوة دعم هائلة كي تثبت على ما هي عليه من أخلاق وتدوم، فليدعي من يدعي ما يشاء حول ذلك أو بين ذلك أو من كل ذلك.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن ستبقى حقيقة أنه لا بد من الحفر عميقًا عميقًا إذا أردت البناء عاليًا عاليًا، وهنا يكون العميقُ كلَ ما يتصل بالحقيقة الخالدة الصافية، المتصلة فينا بالروح والنور والوعي الذي يغمر صدورنا وضمائرنا.

أينما ذهب الدين قال للأخلاق: هيا بنا، كوني معي، فبدونكِ لا أحيا ولا أكون، أعظم الأخلاق وأعلاها قدرًا تلك التي تجد في نفوسنا صداها ومستودعها ومنتهاها.

الصلة بين القول والفعل

1 3 - امتحان الأخلاق وأبعاد الكون التسعة!

من أبدع المعاني المتصلة باللغة وإدراكها معنى “الإحسان”، فهو في الدين معناه أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك سبحانه وتعالى، وفي الحياة هو أشهر من أن يعرَّف بالطبع، بل إن تعريفه يحدده ويحصره وهو أوسع من هذا وذاك، وكان الإمام أبو حامد الغزالي يقول في دعائه: “اللهم أسألك من الإحسان أتمه”.

علماء الفلسفة واللغات واللسانيات في العالم مشغولون الآن باللغة والكلام واللسان انشغالًا كبيرًا، ما يعنينا هنا أنهم يقولون إن “اللغة تصنعنا أكثر مما نصنعها”، وصدق من قال بحق “إن الأشياء توجد فور إدراكها”، فما إن ندرك ونفهم معنى من المعاني أو خُلق من الأخلاق فإنه يظهر الآن وحالًا.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

نحن نقرأ في القرآن في سورة فصلت “إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا”، وسننتبه بوضوح هنا أن هناك صلة بين القول والفعل الموجود.

يؤكده الرسول في حديثه إلى سفيان الثقفي حين طلب من الرسول الكريم أن يقول له في الإسلام قولًا لا يسأل أحدًا بعده، فقال له الحبيب صلى الله عليه وسلم: “قل آمنت بالله، ثم استقم”.

الأخلاق بين التنظير والممارسة

سنجد أنفسنا هنا نقف كثيرًا كثيرًا عند معنى الإكثار من الذكر كما يوصينا القرآن، فما يحدث فعليًا ليس أصواتًا ولا كلمات ولا حتى لغة، بل يحدث إدراك.

رحم الله أهل الطريق وأصحاب التصوف الصافي من رؤيتهم لفكرة “التكرار” في الذكر، كأن يقول الإنسان ذكرًا مائة مرة، أو ما شابه، فيزداد شعورًا وإحساسًا بحلاوات هذا الوجود الذي يحياه ويشمله.

الحاصل أن الأخلاق سلوك منتظم وثابت وصلب لن يكون إلا بالدين فهمًا ووعيًا ونظرًا عميقًا، ولا يملك أحد أن يجادل أحدًا في البعد الإنساني الخالص للأخلاق المكنونة في الفطرة البشرية، لكننا هنا نتحدث عن الأكمل والأجمل والأدوم.

الروائي الروسي دوستويفسكي

41gxX0nGyCL. AC UF10001000 QL80 - امتحان الأخلاق وأبعاد الكون التسعة!

قبل وفاته بأربعة شهور كتب الروائي الروسي الحزين دائمًا المتأمل دائمًا دوستويفسكي (ت/ فبراير1881م) روايته التي ختم بها حياته “الإخوة كارامازوف”، فجاءت بالفعل تتويجًا ذهبيًا لما كتب، وهو على فكرة عاش 60 سنة بالضبط.

يقول فيها إيفان كرامازوف لشقيقه أليوشا: “لاحظ بجدية أنه ليس هناك أي قانون يمكن أن يجعل الإنسان يحب الإنسانية، ولو أن الحب وجد ولا يزال في العالم، فإنه ليس ميزة من مزايا قانون الطبيعة، لكنه يعود بشكل تام لإيمان الإنسان بخلوده الشخصي، وهذا ما يحدد القوانين الطبيعية”.

فقال له أليوشا: “ماذا يعني ذلك؟”، فأكمل: “يعني لو تحطم إيمان الإنسان بخلوده فلن تتعطل قدرته على الحب فقط، لكن ستتعطل كل القوى الضرورية لبقاء الحياة على هذه الأرض”، ألف تحية للحياة يا عم ديستوفيسكي.

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت

امتحان الأخلاق ليس موضوعًا شخصيًا خالصًا، لكنه يتصل في أوثق عُراه وأقوى معانيه بالأمة كلها.

للأسفات الكثيرة، تلك الأسفات المدفوع فيها غالي الأثمان، لم تنتبه الحركات الإصلاحية بالقدر الحقيقي والأوفى لمسألة الأخلاق، واهتمت أكثر بـالحالة الأخلاقية العامة، التي لا تصمد كثيرًا ولا تكفي أبدًا.

إنسان الأخلاق إنسان الإصلاح الشامل، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، الكلام التجريدي عن هذه الأشياء لا قيمة له، وحين كانت مصر في عنفوان نهوضها وريادتها، في الفترة الأزهى (1920/1950)، التي ما زلنا نتحصن بها ونرجع إليها، بل وبها نحتمي، سنسمع أحمد شوقي (ت/1932م) رحمه الله يقول لنا في أشهر أبياته:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت         فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

لكنه تحدث أيضًا محذرًا عما قد يكون أكثر من الذهاب، مشيرًا إلى الأسوأ في الحقيقة:

إذا أصيب القوم في أخلاقهم       فأقم عليهم مأتمًا وعويلًا

مقالات ذات صلة:

هل نعيش عصر الإلحاد والفوضى الأخلاقية؟!

السياج الأخلاقي القيمي وأزمة التربية العربية

الأخلاق بين القيمة والقانون

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. هشام الحمامى

رئيس المركز الثقافي اتحاد الأطباء العرب – عضو الأمانة العامة والمجلس الأعلى لاتحاد الأطباء العرب – مدير الشئون الطبية بقطاع البترول

مقالات ذات صلة