أندلسيات .. الجزء الثالث
أريد اليوم أن أتوقف عند الفترة الأخيرة التي كان فيها حكم إسلامي في غرناطة. تكثر البكائيات العربية على ما يسميه البعض “الفردوس المفقود”، ويقولون إن أبا عبد الله الصغير أضاع غرناطة، وخان شعبه.
يقولون أيضا إن الملكة عائشة الحرة وبّخت ابنها حين رأته يبكي لدى مغادرته غرناطة، وقالت له: “ابك كالنساء على ملك لم تدافع عنه كالرجال”.
ما رأيكم –دام فضلكم– في أن معظم ما كتبه المؤرخون العرب عن هذا الموضوع كان من وحي خيالهم؟
السلطانة “فاطمة”
منذ سنوات نشر باحث إسباني وثيقة في مجلة الأندلس، تهب بمقتضاها السلطانة “فاطمة” بعض أملاكها لأعمال البر. كان ذلك قبل سنوات قليلة من سقوط غرناطة. يعني حتى اسم والدة أبي عبد الله الصغير ليس صحيحا، أو هو محل نقاش على الأقل.
لاحظ أن من يصحح الاسم –اعتمادا على الوثائق– باحث إسباني. الأوروبيون يعتمدون على الوثائق في أي شيء، ونحن دائما نلقي خطبا رنانة، دون أن نكلف أنفسنا عناء التحري عن الحقيقة. فإذا كان اسم السلطانة مغلوطا، ألا يدعونا ذلك إلى التوقف عند تلك المقولة التي نسبت إليها؟
لاحظ أنه –طبقا لكتبنا الصفراء– كل الناس فصحاء. إن العبارة التي نسبت إلى السلطانة تنمّ عن مستوى عال في الفصاحة، فهل درسنا سيرة السلطانة حتى نستطيع أن نؤكد أو ننفي قولها تلك العبارة؟
سقوط غرناطة
أرهقتني كتب التاريخ العربية وأنا أشارك في ترجمة كتب التاريخ الموريسكي أو مراجعتها: الكتب تسمي أي سلطان في غرناطة “ابن الأحمر”، وهي تسمية صحيحة، لأن ابن الأحمر جدهم جميعا، لكن هذه التسمية التي تغفل اسم كل سلطان تجعل الباحث يبذل جهدا كبيرا لترتيب الأحداث التاريخية.
ثم زعموا أن أبا عبد الله الصغير قد تقاعس عن أداء واجبه، وأنه لو أدّاه ما سقطت غرناطة. هذه المقولة لا يمكن أن تصدر عن باحث يضع في اعتباره تاريخ أوروبا والبحر المتوسط قبل قرن كامل من سقوط غرناطة.
إن المتابع لتاريخ شبه جزيرة إيبريا وشمال إفريقيا يدرك أن غرناطة لم تكن أكثر من موضع من مواضع النزاع بين الامبراطوريات المسلمة المتعاقبة في إفريقيا من جهة، والممالك المسيحية في شمال إسبانيا من جهة أخرى.
إذا ساءت الأحوال في شمال إفريقيا، وتأخر حكامها عن نصرة الأندلس، فالنتيجة الحتمية لذلك هي توسع الممالك المسيحية على حساب ما تبقى من الأندلس.
اتفاقية تسليم غرناطة
هل يتخيل باحث عاقل أن تتصدى غرناطة منفردة للامبراطورية الإسبانية الوليدة؟ ماذا كان بوسع أبي عبد الله –الذي يحكم مملكة صغيرة– أن يفعل في مواجهة فيرناندو الذي تدعمه أوروبا؟
من ناحية أخرى، لو عكف مؤرخونا على دراسة اتفاقية تسليم غرناطة لتراجعوا عن ذلك الاتهام الظالم. لم يكتف أبو عبد الله الصغير بالدفاع عن حق المسلمين في ممارسة شعائر الإسلام والاحتكام إلى شريعتهم،
بل فرض على فيرناندو القبول بشرط مجحف للمسيحي المنتصر: إذا أراد المسلم أن يدخل في المسيحية فلا يعتد بذلك إلا بعد إقرار الفقهاء المسلمين، وإذا أراد المسيحي أن يعتنق الإسلام فإنه يصبح مسلما على الفور!
هل ظلم التاريخ أبو عبد الله الصغير؟
هل يفكر “خائن” في وضع شرط كهذا؟ كان أبو عبد الله يعمل وفقا لمعطيات في غاية الصعوبة، في مواجهة ممالك مسيحية اتحدت تحت حكم فيرناندو، وقد حصل لمسلمي غرناطة على أفضل معاهدة يمكن أن يقبل بها طرف منتصر.
لذلك فإنني أرى أن السلطانة لم تكن لديها سبب لتوبيخه. من المؤسف أن يلقي مؤرخونا اللوم على أبي عبد الله، وألا يجد ملك غرناطة إنصافا إلا من الباحثين الأوروبيين.
يقدم الفيلسوف اليوناني نصيحة ثمينة للمتحاورين: “عليكم، قبل الحوار، أن تحددوا معنى كل مصطلح، تجنبا للخلط”. أستعير النصيحة، وأتمنى أن يتقبلها من يريد البحث في مجال الأندلسيات أو الموريسكيات.
حول أصل كلمة الأندلس
لفظ “الأندلس” لا يصح إطلاقه على إسبانيا قبل الفتح الإسلامي، ولا بعد عام 1492. اللفظ لا يحدد مكانا جغرافيا فقط، بل يتضمن بعدا زمانيا كذلك. أنت لا تستطيع أن تتحدث عن “المدينة المنورة” قبل الهجرة النبوية، و لا عن “يثرب” بعد الهجرة.
يخلط البعض بين “الأندلس” وإقليم أندلوثيا، وهو خلط لا يجوز، فلم يعد هناك أندلس بعد أن سقطت غرناطة. لكن الوجود الإسلامي لم ينته بسقوط غرناطة، بل استمر حتى عام 1614 على الأقل، والأبحاث التي تتعلق بالفترة من 1492 -1614 نادرة في الوطن العربي.
تزداد المشكلة عمقا عندما ينشر الباحثون العرب القلائل في هذا الموضوع أبحاثهم بلغة غير العربية. علينا أن نحدد معنى كلمات: “مستعرب”، “مدجن”، “موريسكي”، “مسيحي قديم” “مسيحي جديد”.
التعريف الدقيق لهذه المصطلحات سيجنبنا كثيرا من أنواع الخلط التي نراها في الأبحاث التي تنشر باللغة العربية، وللحديث بقية إن شاء الله.
اقرأ أيضاً:
حاكم المدينة المنورة الأسكتلندي
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا