مقالات

سعادة الإيمان بالله

قدر الإنسان أن يخلق لمكابدات الوجود، وأن تختلط مسراته بأحزانه وأوجاعه، فالدنيا ليست مستقر راحة وسرور، تلك سنة الله في خلقه “لَقَدْ خَلَقْنَا الْإنسان فِي كَبَدٍ (4)” (البلد)، وتلك حقيقة لا تغيب عن أحد في نفسه وفي غيره، فمن منا تصفو له الحياة كلها؟! ومن منا لم يتجرع من كأس الآلام والمصاعب؟! ومن منا لم تتقلب به الحياة على أحوالها وتقلبات وجهها بهجة وعبوسًا؟

هذا اليقين أول امتلاك أدوات المواجهة والوقوف بصلابة أمام هذه الأحوال المتباينة، إذ يحتاج الإنسان إلى اليقين بأن الله يمتحن عبده المؤمن في السراء شكرًا والضراء صبرًا، ومن ثمَّ فإن راحة الإنسان الحقيقية في الإيمان بالله، لأن الإنسان المؤمن يعيش في حالة سكون روحي ويقين يجعله يتقبل مآسي الحياة بالصبر والرضا، وهاتان الصفتان كفيلتان بأن تعيدا التوازن إلى نفسه، وتصلحا باله، فيقبل على الحياة وهو آمن على نفسه من نوازع الشيطان التي تردي به في مهاوي الضجر وعدم الرضا.

تعريف الإيمان بالله

إن الإيمان بالله هو المأمن من مخاطر الحياة، الدعامة التي يركن إليها المؤمن عندما تخونه أركان الدنيا، والمسار الذي يمضي فيه المؤمن إلى دروب الراحة والطمأنينة، وابتغاء النعيم الذي يرجوه من خيري الدنيا والآخرة، ويجعله يعيش في رحاب رحمة الله التي وسعت كل شيء “وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ” (الأعراف: 156).

إذا كان اسم الله “الرحمن” يعني الموصوف بالرحمة، فإن اسم الله “الرحيم” يعني الذي يكافئ بها، وإذا كانت رحمة الله في الدنيا تشمل كل عباده بارهم وفاجرهم، فإن رحمته في الآخرة لمن آمن واتقى وعمل صالحًا، ومن ثم فقد عاش المؤمن في رحمة الله في الدنيا وفاز بها في الأخرة.

إن الدين يُكسب الإنسان القوة التي يواجه بها ملمات الحياة، والصبر الذي يقف به في وجه كل ابتلاءات الحياة أو البشر “وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ” (الفرقان: 20).

اضغط على الاعلان لو أعجبك

الإيمان تطبيق شعائر الدين الظاهرة والباطنة، فهو ما وقر في القلب وصدقه العمل، ومن ثم فلا قيمة لعبادة لا يظهر أثرها في حياة الفرد والمجتمع، ولو تأملنا لوجدنا أن كل عبادة في الإسلام لها ثمرة تتركز في المقام الأول على مراقبة الله، ومن ثم تقويم السلوك الإنساني، ولنقرأ قول الله تعالى عن الصلاة “إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ ” (العنكبوت: 45)، فسنجد أن ثمرة الصلاة تتركز في تقويم سلوك الإنسان ومراقبته الدائمة لربه، وبعده عن ما يشين أخلاقياته في معاملاته، وقد جاء رَجُلٌ إلى النَّبيِّ (صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ) فقال: “إنَّ فُلانًا يُصلِّي باللَّيلِ، فإذا أصبَحَ سرَقَ. قال: إنَّه سيَنهاه ما تَقولُ”([1])، أي إن قيامه بالليل سيعدل سلوكه، مصداقًا لقول الله تعالى “تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ”، ونجد ذلك ماثلًا في كل العبادات التي كلفنا الله تعالى بها، وتأمل ما قاله الله –جل وعلا– عن الصيام: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)” (البقرة)، فإنك تجد أن ثمرة الصيام التقوى، وإذا لم تتحقق فلا قيمة لهذا الجهد في هذه العبادة.

اقرأ أيضًا: التساؤلات وطريق الإيمان الحقيقي

متى يتحقق الإيمان بالله

الإيمان بالله

إن المساجد قد تمتلئ بالمصلين، والحرم قد يمتلئ بالحجاج، لكن من بين كل هذه الوفود تجد أناسًا يتقبل الله منهم، وهم من تحققت فيهم صفة التقوى “قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ” (المائدة: 27)، أي المراقبة وإظهار ثمرة العبادة في الدين والمعاملات مع الناس، إن حياة الناس بلا إيمان حياة جافة لا معنى لها وصدق محمد إقبال حين قال:

إذا الإيمان ضاع فلا أمان    ولا دنيا لمن لم يحي دينا

ومن رضي الحياة بغير دين  فقد جعل الفناء لها قرينا([2])

ولا مشاحة في أن الحياة تصبح عبثًا لو عشناها على أنها مرحلة لا هدف لها، فإذا كنت سأعيش ستين سنة، أو سبعين سنة وأنا لا هدف لي فيها إلا الطعام والشراب والملبس فما قيمة هذه الحياة؟ وما قيمة العلم والمعارف؟ وما قيمة العلاقات؟ إن الله خلقنا لنعيش الحياة ونبحث عن سر كونها، ونصل بعقلنا وإيماننا إلى وجوده –سبحانه– وقدرته، ونعيش على مراقبته، لنفوز بجنته.

هؤلاء الذين يريدون أن يعيشوا بالهوى يرتعون ويلهثون خلف شهواتهم دون رادع من مراقبة أو وازع من يقين، لا يفقهون حقيقة الإيمان الذي جاء ليطهر حياتهم ويرسم لهم طريق السعادة الحقيقية، وليست هذه السعادة المؤقتة بوقت بقائهم في الدنيا، فمن أرضى هواه في دنياه وغفل عن معنى الإيمان والمراقبة سيدفع ضريبة ذلك أمام ربه، وإن ظن أنه عاش السعادة التي تمناها فهو غافل عن معنى أعمق لهذه السعادة التي لا يشعر بها إلا من ذاق لذة القرب من ربه ولذة الانقياد لأمره.

لا ريب في أن الهداية للإيمان منحة من الله يمن بها على من يشاء من عباده “يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ۖ قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم ۖ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (17)” (الحجرات).

اقرأ أيضًا: عودة الروح.. كيف نصنعها؟

آثار الإيمان بالله

إن الإيمان هو الأنس بالله أمام هذه الوحشة التي تملأ الحياة، هو الركن الآمن أمام كل قوة غاشمة تعتدي على حرمات العباد، هو الملاذ الحقيقي لمن تاقت نفسه إلى الراحة، هو انعكاس يظهر في سلوك الفرد فلا يقدم على أذى أحد، ولا يجرح أحدًا، ولا يعتدي على حرمات أحد، هو مراقبة ذاتية للسلوك والعادات تجعل الإنسان لا يسير وفق الهوى ولا المزاجية، وإنما يسير في إطار منضبط من العدالة والموضوعية منطلقًا من قوله تعالى “الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82)” (الأنعام).

في ظل الإيمان بالله تعيش حياة طيبة لا كدر فيها ولا حزن “مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)” (النحل).

إن رسولنا (صلى الله عليه وسلم) وهو أكمل الناس إيمانًا، وذلك تصديقًا لقوله “أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له”([3]) كان يعمل على مراقبة ربه وشكره، ويجتهد في الطاعة والعبادة، ليؤدي شكرها، ولما سألته السيدة عائشة عن سبب اجتهاده في طاعته قال “أفلا أكون عبدًا شكورًا”([4])، هذه هي الطاقة الإيمانية التي تشحذ همة الإنسان في وجوده ليؤدي رسالته تجاه ذاته ونفسه ومجتمعه وإنسانيته، مهما واجهته صعوبات الحياة، إذ الشكر يملأ النفس رضًا وطاعة ويقينًا وصبرًا واحتسابًا وامتثالًا لأوامر الله، وفي ذلك تمام النعمة وكمالها.

ثمرات الإيمان بالله

الإيمان بالله

لا شك في أن أعظم ثمرات الإيمان شعور صاحبه بالراحة والبركة في العمر والرزق، وثمرات التقوى تكون عاجلة وآجلة، ومن ثمراتها العاجلة هذه البركات التي يتفضل الله بها على عباده. “وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ” (الأعراف: 96)، ومن ثمراتها أن تجد من كل ضيق فرجًا ومن كل هم مخرجًا “وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ” (الطلاق: 2-3)، ومن ثمراتها اليسر بعد العسر والفرج بعد الشدة “وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا” (الطلاق: 4).

من أعظم ما يأمل الإنسان في حياته أن يوفر لذريته عيشًا كريمًا ويحفظهم من غوائل الدهر وتقلبات الأيام، ولن يتحقق ذلك عبر أموال يتركها أو عقارات يورثها، لأنها ربما تكون وبالًا عليهم إذا كانت من حرام، أو إذا لم يحسن تربية بنيه، وقد حسم ربنا –جل وعلا– القضية قائلًا: “وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)” (النساء).

فإذا كنت تبحث عن ضمانة لحفظ ذريتك من بعدك، فإن الإيمان والتقوى هما الضمانة الوحيدة لها، فما قيمة أموال تتركها دون تقوى أو خشية، إذا لم يكن من الله حافظ لبنيك؟

إننا نصادف في حياتنا أهوالًا وعقبات تحتاج إلى من يدفع عنا ما يصيبنا من آثارها من هم أو ضيق، وهنا تكون ضمانة الإيمان التي تكفل لك أن يدافع الله عنك، ويدفع عنك الأذى ويطرد عنك الخوف والمكاره. “إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ۗ ” (الحج: 38)، وهو ما تلخصه عبرة الحياة ويقينها أن الإنسان خلق لنهج مستقيم يضمن سلامته النفسية فرديًّا ومجتمعيًّا.

اقرأ أيضًا: ماذا تقول لربك غدًا؟!

مصادر:

[1] ) الراوي: أبو هريرة، صحيح ابن حبان، حديث رقم ( 2560)

[2] ) الأعمال الكاملة لمحمد إقبال، ص103.

[3] ) الراوي: عمر بن أبي سلمة، صحيح مسلم، حديث رقم (1108).

[4] ) الراوي: عائشة أم المؤمنين، صحيح البخاري، حديث رقم ( 4837).

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د/ ماهر فؤاد الجبالي

 أستاذ الأدب والنقد ووكيل كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بجامعة الأزهر