مفهوم السعادة في الفكر الفلسفي اليوناني – الجزء الخامس
بعد أن تحدثنا عن مفهوم السعادة، وكيفية تحقيقها عند أفلاطون الحكيم اليوناني، وكيف تكون العدالة طريقا مؤكدا لتحقيق السعادة، سعادة الفرد الذي بدوره عضوا في مجتمعه سواء كان مجتمعه الأصغر -أسرته- أو مجتمعه الأكبر -المحيط الذي يعيش فيه، ومن ثم تتحقق السعادة المرجوة للجميع، أعتقد أن هذا ليس صعبا أن يحقق الإنسان وئاما وسلاما داخليا مع نفسه، ليس هذا وحسب بل إن ذلك سينعكس على واقعه المعيش.
ننتقل بحضراتكم إلى الحديث عن مفهوم السعادة عند المعلم الأول أرسطو طاليس، حكيم اليونان رائد الاتجاه العقلاني في الفكر اليوناني، أول من وضع مذهب الأخلاق وقدم نظرية في الأخلاق، أرسطو الذي لاقت آراؤه قبولا منقطع النظير عند فلاسفة الإسلام، ولا سيما الكندي والفارابي وابن سينا وحتى الإمام الغزالي -نعم الإمام الغزالي- ومن يريد أن يستوثق من كلامي يذهب لآراء الغزالي الأخلاقية، في كتابه إحياء علوم الدين وحديثه عن الوسط الأخلاقي، ليس هذا وحسب بل وأحيله إلى كتابي “المشكلة الخلقية بين مسكويه والغزالي”.
كذلك لاقت مترجماته قبولا عند فلاسفة المغرب البطليوسي، وابن باجة وابن طفيل وابن رشد. وإن كنا نرى أنه على الرغم من تأثر فلاسفة الإسلام به إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور فكر خاص بهؤلاء الفلاسفة بما يدعم موقفنا من ظاهرة التأثير والتأثر في الفكر الإنساني وأنها ظاهرة محمودة.
ولم يقتصر تأثير أرسطو على فلاسفة الإسلام فقط بل بلغ تأثيره مداه على فلاسفة المسيحية وخصوصا القديس بطرس أبيلارد وأنسلم وعملاق الفكر المسيحي القديس توما ألاكويني.
مفهوم السعادة عند أرسطو:
لأرسطو مؤلفات في الفكر الأخلاقي أهمها الأخلاق النيقوماخية، الذي أهداه لابنه نيقوماخوس، والأخلاق الأوديمية والذي أهداه إلى تلميذه أوديموس، ناهيك عن بعض البحوث النظرية في الفضائل والرذائل ومفهوم الخير ومفهوم الشر.
لو أردنا حقا أن نتعرف على مفهوم السعادة عند أرسطو لا بد من ضرورة التعرف على الغاية من الأخلاق عنده، الغاية هي إصابة الخير، بمعنى تحقيق الخير من خلال تحقيق الفضائل، التي بدورها إذا ما تحققت تقودنا إلى الخير الأقصى الذي يقصده الجميع، فالفضائل تضعنا تحت عرش الإله.
جعل أرسطو الخير هدفا أسمى يقصده الفضلاء ويتسابق إليه أهل الفضل، تتقاذفهم الأهواء يمينا ويسارا ويقاومونها بتربية وتهذيب النفس عن طريق تعلم الفضيلة ثم تطبيقها على الواقع المعيش، فالفضائل نوعان فضائل أخلاقية تأتي عن طريق التربية والتعود والممارسة، وفضائل عقلية تأتي عن طريق إعمال العقل، ولا تتحقق السعادة إلا بالجمع بين الاثنين.
السعادة الأولية والسعادة الثانوية
فرق أرسطو بين نوعين من السعادات، السعادة الثانوية، والسعادة الأولية. أما السعادة الثانوية فلا مندوحة عنها، فالإنسان إذا ما خير بين الصحة والمرض سيختار الصحة، إذا ما خير بين الغنى والفقر سيختار الغنى، فهذه أطلق عليها خيرات ثانوية، أو على حد تعبيره خيرات خارجية، وهي معينات على تحقيق السعادة الأولية.
أما السعادة الأولية فهي السعادة الدائمة المطلقة التي يقصدها الإنسان بإرادته الخيرة التي تدفعه دفعا نحوها. وهذه الفكرة تأثر بها الغزالي في حديثه عن الخيرات، ومنها الخيرات الخارجية وخيرات النفس وخيرات البدن وخيرات توفيقية.
يرى أرسطو أنه حتى تتحقق السعادة الحقيقية للإنسان عليه بالوسطية، وجاء ذلك عند حديثه عن نظرية الوسط الذهبي -الوسط الاعتباري وليس الحسابي- وأن الإنسان إذا أراد حقا تحقيق السعادة عليه بالاعتدال في كل أموره لا يميل بالكلية إلى جانبه المادي ولا كذلك إلى جانبه الروحي.
فنجد العفة تقع بين طرفين كلاهما رذيل -بين الشره والتبلد، فلا يكون الإنسان شرها في إشباع شهواته بأنواعها ولا متبلدا خاملا. وكذلك الشجاعة تقع بين طرفين كلاهما رذيل -بين الجبن والتهور، وأيضا فضيلة الكرم بين طرفين -البخل والإسراف، فلا يكون الإنسان بخيلا مقترا ولا مسرفا مبذرا. هكذا تتحقق السعادة للإنسان دونما إفراط أو تفريط. هذا باختصار حديثنا عن أرسطو.
مفهوم السعادة عند المدرسة الرواقية والأبيقورية
أما المدرسة الرواقية والأبيقورية فكان لهما وجهة نظر مختلفة حول مفهوم السعادة.
المدرسة الأبيقورية
المدرسة الأبيقورية هل كانت مذهبا في اللذة أم في السعادة؟ إمامها ومؤسسها أبيقور صاحب مذهب في اللذة -وأقولها اللذة وليست السعادة- الذي يقول إن الإنسان لا ينبغي عليه أن يستحي من إشباع شهواته ورغباته وتلبية نداء الطبيعة، الذي يقول بفلسفة الوجدان والعواطف والميول والرغبات والمشاعر، الذي يقول على الإنسان ألا يتقيد بالحاضر ويسعى للمستقبل في إشباع كل شهواته، فالتحرر من المستقبل عبودية للحاضر.
أبيقور الذي يقول ما الذي يسبب قلقا للإنسان؟ الأمر الأول الخوف من الموت، إن الإنسان لن يلاقي الموت أبدا، لماذا يا أبيقور؟ لأن الإنسان إذا مات زالت عنه حواسه، لكن نسيت أمرا مهما، نسيت حال الموت وحال خروج الروح والمعاناة التي عاناها سقراط حال تجرعه السم، فإننا سنلقى الموت حتما يا أبيقور.
والأمر الثاني الخوف من الإله، يقول وليس ثمة خوف من الإله إذ ليس ثمة إله، فالكون نشأ عن ذرات ميتة ومن ثم ليس هناك إله لتخاف منه. أليست هذه سعادة سلبية؟ لذتي قبل كل شيء، تحقيقها لي قبل كل شيء، أليست هذه ذاتية مسرفة؟ تلك نزعة انتشرت في العصر الهلينستي.
لكن هل ظل أبيقور على موقفه؟ لا فقد تحرر من الإفراط في اللذة وترك حياة القصور وكان يكفيه كسرة خبز عليها قليل من الجبن الجاف، وهذه سنة كونية، فالإنسان لا يمكن أن يثبت على وتيرة واحدة، فقد يأتي عليه يوم ويزهد في شهواته لأن إسرافه في إشباعها يصيبه بعد ذلك باللامبالاة، كالذي مثلا يأكل نوعا من الفاكهة كالتفاح تقدمه له كل يوم، بالتأكيد سيزهد فيه ويريد التغيير.
المدرسة الرواقية
أما المدرسة الرواقية فعلى النقيض من الأبيقورية، سلكت مسلك الزهد والتقشف وسارت على منوال المدرسة الكلبية، إلا أنها أدخلت تعديلات على الكلبية، فالكلبية كانت ترى إماتة كاملة للشهوات، إلا أن الرواقية نادت بإشباع الشهوات بكثير من الروية، الكلبية كانت تقول إن الناس إما أخيار أو أشرار ولا وسط بينهما، وعدلت الرواقية ذلك فالإنسان من الممكن أن ينتقل من الخير إلى الشر والعكس.
قامت فلسفة الرواق على مبدأ مهم، العيش على وفاق الطبيعة العقلية، بمعنى الاحتكام إلى العقل في تحقيق الفضائل، وأن ثمة قانونين يحكمان حياة الإنسان، القانون الإلهي والقانون العقلي، فالكون كله يخضع لإله واحد وطبيعة عقلية واحدة، فالرواقية دعوة لإعمال العقل من أجل الوصول إلى تحقيق السعادة، ليس هذا وحسب بل دعت إلى الأخوة والوحدة الإنسانية، وكذلك كانت دعوة إلى تحقيق السلام العالمي والمدينة العالمية، وهذه الدعوة لاقت قبولا في العصر الحديث بل أسست لمفهوم السلام العالمي عند إمانويل كانط.
هل تحقيق السعادة أمر مستحيل؟
وبعد، سيداتي وسادتي بعد هذا العرض على مدار خمس مقالات تحدثنا فيها عن السعادة، هل تحقيق السعادة أمر مستحيل؟ نقول ليس أمرا مستحيلا على الإطلاق، المهم:
1- أن تكون النوايا حسنة وطيبة، بمعنى تكون هناك نية حقيقية للإنسان لتحقيق سعادته، ليس هذا فحسب بل يقدم كل ما في وسعه مهما كلفه ذلك في إسعاد الآخرين.
2- طرح الأنانية جانبا وإحياء مبدأ الإيثار، بمعنى يؤثر الإنسان مصلحة الآخرين على مصلحته، ولا أحد يقول إن الزمان هذا يعج بالأنانية ومصلحتي قبل كل شيء وهذه طبيعة الحياة التي نحياها ولسنا في زمن الأنبياء والقديسين، أقول بقليل من التعقل وذوبان الإنسان في ذات الإنسان ستحل المعضلة، ولنا في الأنبياء والقديسين والرهبان القدوة والمثل الأعلى.
3- الإنسان بما هو كذلك يجمع بين جانبين، جانب مادي وجانب روحي، فليحاول قدر استطاعته أن يوفق بينهما، بحيث لا يغلّب جانبا على الآخر.
4- تهذيب وتربية النفس ومعاتبتها باستمرار وترويضها، تارة بالترغيب وتارة أخرى بالترهيب.
5- الاطلاع ومطالعة سير المصلحين والفلاسفة، والمواظبة على القراءة الدؤوبة في شتى صنوف المعارف ولا سيما في الكتابات الأخلاقية.
6- إعمال العقل في كل أمورك المعيشية وفي مخططاتك للمستقبل فبه نهتدي، ولا توظفه توظيفا خاطئا بل وظفه توظيفا سليما، وفي نفس الوقت لا بد أن تختار بتؤدة وسكينة وطمأنينة، فحرية الاختيار مكفولة للجميع لكن لا بد أن تعلم أن الحرية مسؤولية.