العنف المقدّس .. الجزء الثامن
سنتوقف مع مثال من السنة النبوية يوضّح الحضورين: القانوني والأخلاقي للعمل في وعي العامل، وما لكل منهما من أثر على سلوك العامل لطفًا وعنفًا، إذ ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: “أنه جاء أعرابيٌّ فبال في طائفة من المسجد: أي ناحية، فزجره الناس: أي قالوا: له اكفف، فنهاهم النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي رواية أخرى قال: “لا تزرموه” أي: لا تقطعوا بوله، فلما قضى بوله أمر النبيّ بذنوبٍ من ماء فأهريق على بوله: أي: أريق، ثم قال له النبي: “إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، وإنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن”، فقال الأعرابي: “اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا”، فقال له النبي: “لقد حجّرت واسعًا”، ثم قال للصحابة: “إنما بعثتم ميسِّرين ولم تبعثوا معسِّرين”.
إن هذا الموقف يقف شاهدًا جليًا على ما أريد بيانه، إذ إن موقف النبي كان جامعًا في نظره للواقعة بين البعدين الأخلاقي والقانوني للعمل الشرعي بخلاف الزاجرين من الصحابة، رضوان الله عليهم، الذين نظروا إلى الجانب القانوني فقط.
أما أمارة وعيه صلى الله عليه وسلم بالبعد القانوني المتمثل في ضرورة المحافظة على طهارة المسجد، فتتمثل في شيئين:
- أنه أمر بتطهير موضع البول.
- أنه حرص على تعليم هذا الأعرابي أن هذا مما لا يصح في المساجد، حتى لا يتكرر الفعل.
أما أمارة وعيه بالبعد الأخلاقي للعمل فتتمثل في شيئين:
- مراعاة ما وراء الحكم الشرعي من مقاصد تتركز بالأساس في دفع المضرة وتوسيع المنفعة قدر الإمكان، فكان النبي بموقفه أكثر مراعاة لهذا المقصد من الصحابة الذين زجروا الرجل ظنًا منهم أنهم يحققون المقصد، ودليل تميز النبي على الصحابة في الوفاء لهذا المقصد، أن فعل الزاجرين كان سيفضي إلى مضار عدة لو وقع، وهي:
- مضرّة بالمكان، إذ إن الصحابة لو همّوا بالرجل ليمنعوه، فمما لا شك فيه أن دائرة البول التي أصابت المسجد كانت ستتسع، بسبب تحرك الرجل جراء حالة الشد والجذب التي ستنشأ بينهم.
- مضرّة بالإنسان، وأقصد بها المضار الطبية التي من الممكن أن تصيب الرجل جرّاء القطع المفاجئ للبول، وهي أكبر من مضرة الأذى المتحمّل بتركه، ومن ثم وجب ترك الرجل دفعًا للمضرّة الأكبر.
- مضرة بالأديان، إذ إن هذا الرجل أعرابي يتسم بالغلظة والجهل، الأمر الذي قد يحمله على أن يقول للصحابة أو النبي كلمةً لا تليق، فيضرّ دينه، فضلًا عما تخلّفه حالة “الشد والجذب” هذه من فساد ذات البين، وإضفاء صبغة تعسيرية على الدين.
- التخلق بما خلف هذه المقاصد من قيم موصولة بأسماء الله وصفاته، وهي رحمة الخالق بالخلق ورفقه بهم، تلك الصفات المستمدة من اسمي “الرحمن والرحيم”، هذا التخلق يتجلى في سلوك النبي إزاء هذا الموقف، إذ كان النبي مستحضرًا في تقييمه للموقف خلفية الرجل المعرفية الضعيفة وعاداته البدوية المسيطرة عليه، إذ إن هذا الرجل من أهل البادية حسبما تفيد ذلك كلمة “أعرابي”، والجهل في الأعراب أكثر انتشارًا، لبعدهم المكاني عن النبي، فكان تخلق النبي بالرحمة والرفق حاملًا للرجل أن يقول: “اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا”.
إن المتأمل في هذه الواقعة برمتها من خلال موقفي النبي والصحابة، يجد أن سرّ التميّز في موقف النبي من ناحية تحليلية عقلية، أن تفكير النبي كان مركّبًا متعدّد الاعتبارات يجمع بين ما في القانون وبين ما يدور على الأرض، وذلك لتحكم النظرة الأخلاقية من ذلك التفكير، فجاء تقديره للموقف جامعًا بين أكثر من بعد على النحو التالي:
- الحكم الشرعي من حيث عدم جواز التبول في المسجد.
- حال الأعرابي من حيث جهله بالحكم وغلظته الخلقية.
- تحقق النجاسة إذ إن البول أصاب المسجد بالفعل، وصار التفكير الأدق، وفقًا لهذا المعطى، هو محاصرة البول لا محاولة قطعه، لما قد يفضي إليه القطع من مضار عدة.
- تعدد المضار الواقعة في الموقف برمته؛ مضار تتعلق بالمكان، ومضار تتعلق بالإنسان، ومضار تتعلق بالأديان.
- تفاوت هذه المضار المتعددة في الدرجة، أي عدم تساويها، فبعضها أشد من بعض، ومن ثم بعضها أولى بالاعتبار من بعض في نظر النبي.
وعليه جاء تشخيصه للموقف غنيًا جامعًا بين ما هو قانوني امتثالي، وما هو أخلاقي مقاصدي، فكان علاجه صلى الله عليه وسلّم ناجعًا مأمونًا، فترك الرجل يكمل بوله دفعًا لمضار كثيرة جاء الشرع في الأصل لدفعها، وعالج آثار الموقف المادية المتمثلة في البول بالماء، وداوى أسبابه العقلية المتمثلة في الجهل والغلظة بالتعليم للأعرابي والرفق به، وحَفِظ للجماعة سلامة ذات البين، وحَفِظ للدين وجهه الطيب، بخلاف الزاجرين الذين فكروا تفكيرًا بسيطًا أحادي البعد، لانحباسهم فيما هو قانوني فقط على مستوى التشخيص وهو عدم جواز التبول في المسجد، غير مكترثين بما يدور على الأرض، وغير متدبرين لعواقب ما يريدون فعله على الدين وأهله، ولذلك كان قرارهم على مستوى العلاج غير سديد، فحال النبي بينهم وبين ما يريدون، بل لو تمّ لهم ما يريدون لما وصلوا لمقصدهم، كما فصلت آنفًا.
إن هذا الكلام الذي انتهينا إليه إنما يعني أن انحباس العامل في الوجه القانوني للعمل الشرعي وقطع الصلة بينه وبين الوجه الأخلاقي، يمثل مكمن خطورة رهيبة على الدين وأهله، إذ إنه يحوّل الدين إلى سمٍّ زعاف، بما ينشأ عن هذا الانحباس من تصورات ضيّقة قد تخلّف أفعالًا تضر بالدين وأهله في الحال والمآل، وسأرجئ تفصيل ذلك إلى حين الانتهاء من الحديث عن “مسالك دخول آفتي التملك والتميز إلى العمل الشرعي”، هاتان الآفتان المؤسّستان للتسلّط الذي بقوته يقوى العنف.
للتذكرة: الحديث عن مسلك هاتين الآفتين إلى العمل الشرعي، أحد أمرين أخذتهما على نفسي لبيان أن العمل الشرعي قد يكون سبيلًا للعنف في ممارسات بعض الطائعين، لأبيّن أنّ تفاوت الطائعين في وعي العمل الشرعي له أثر كبير على سلوكهم لطفًا وعنفًا.
وعليه فالقادم هو بيان الأمر الثاني، وهو: كيف تضرب هاتان الآفتان العمل الشرعي فتجعله مؤسّسًا للعنف في نفس العامل بدلًا من أن يكون دواء له.
اقرأ أيضاً: بين النظري والعملي
اقرأ أيضاً: “الإنسان” ذلك الكائن الأخلاقي
جذر شجرة العنف أن تشعر بالتملّك
مسلك آفة التملّك إلى العمل الشرعي
إن حصول الإنسان على صفة “التملك” كان من مستلزمات تحمّل الأمانة الإلهية؛ أمانة التكليف، إلا أنّ منّا من طمع في هذه الصفة لنفسه يحسبها توسعة، فكانت تضييقًا عليه في النظر والأفق وعنفًا على من حوله في السلوك والخلق، هذه هي القصة باختصار، وإليكم التفصيل.
لما كان العمل الشرعي رحلة طويلة تبدأ بالأفعال الاعتقادية والاشتغالية وتتغيا الآثار الأخلاقية والسلوكية، كان العمل الشرعي معرّضًا –بعد دخول العامل فيه– للموانع التي تحول دون آثاره وتنحرف بمسار عامله، هذه الموانع هي تلك الآفات التي تصيب العمل الشرعي بعد دخول العامل فيه، وأُنبّه على أن إصابة هذه الآفات للعمل الشرعي لا يتوقف ضررها على منع آثاره بل إنها تتعدى ذلك إلى الانحراف بمسار العامل نفسه، بمعنى أن هذه الآفات لا يقتصر ضررها على منع العمل الشرعي من أن يؤتي أكله المتمثل في التخلق بالعمل والوصول إلى الله، ومن ثم تجعل العمل جسدًا بلا روح، بل إنها تتجاوز ذلك فتنحرف بالعامل نحو تصورات فاسدة تخلّف أفعالًا مفسدةً.
إنّ لحظ هذا الانحراف في مسار العامل بالعمل الشرعي وربطه بتلك الآفات، لهو أمر يحتاج إلى يقظة عالية من الناظر المتأمل، إذ إن هذه الآفات، من جهة، تتفاوت في ظهورها، بمعنى أن بعضها أخفى من بعض، ومن جهة أخرى الربط بينها وبين ما تخلّفه من تصورات عقلية وأفعال سلوكية ليس ميسورًا، إذ إنه يحتاج إلى وعي معرفي متقدّم وخبرة بالنفس الإنسانية.
سينصب كلامي هنا على ثلاث نقاط:
الأولى: عن مسلك آفة “التملك” إلى العمل الشرعي.
الثانية: عن أثرها في العامل انحرافًا في تصوراته وعنفًا في سلوكه، وهي النقطة المهمة بالنسبة لنا.
الثالثة: سبل دفع هذه الآفة وما ينتج عنها من آثار.
أولًا: مسلك آفة التملك إلى العمل الشرعي
إن طروء الآفات على العمل الشرعي إنما يقع من جهة ما في النفس الإنسانية من شوائب تحتاج إلى تمحيص وتخليص، ومن ثم تأتي الاختبارات التي يتعرض لها العامل بعد الدخول في العمل، والتي سبق أن أشرت إلى أنها اختبارات أصعب وأدق من اختبار الدخول في العمل، لتنقية نفس العامل من شوائبها، “أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)”، العنكبوت.
فما الآفة في حقيقتها إلا حظ من حظوظ النفس الذي ينال من أحد أسس العمل الشرعي، وعليه فإذا كان استحقاق العمل الشرعي للكمال يكون بمقدار تحققه بشرطي الإخلاص لله، والمتابعة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه من باب تحقيق الإخلاص تطرق آفة “التملك” العمل الشرعي، فكيف يكون هذا؟!
إن دخول العامل في العمل الشرعي ظاهريًا، ليس شهادة مطلقة على كمال الإخلاص لله، إذ إن الإنسان داخليًا مختبرٌ بنفسه، وعلى مدرج هذه النفس تتنزل اختبارات أصعب وأدق كما سبق أن قلت، وسر صعوبتها في اتساع مجالاتها كيفًا وكمًا.
المقصود بالكيف أن العامل لا ينجو منها بمجرد الأقوال حتى تصحبها الأحوال والأفعال، والمقصود بالكم أن هذه الاختبارات تشمل كل الأصعدة التي يدرج فيها العامل، وسرّ دقتها أن هذه الاختبارات بعضها أخفى من بعض، إذ إنها درجات:
أولها: اختبار ألا تصرف النفس العمل للناس مع الله، وهو الرياء، وهذا الرياء دفعه ليس سهلًا، إذ إنه أخفى من دبيب النمل، فإن جاهد العامل نفسه على أن يتجاوز هذا الاختبار بأن حرص على ألا يكون للناس حظ في عمله، وكان هذا التجاوز بالأقوال والأفعال والأحوال وعلى مختلف الأصعدة التي يدرج فيها العامل.
فثمة اختبار ثانٍ أخفى من الأول على العامل أن يتجاوزه، وهو ألا يقع التوجه للنفس بالعمل، بمعنى ألا تشعر النفس بـ”تملك العمل الشرعي” بأن ينسب العامل أعماله إلى قدراته الخاصة في أي مرحلة من مراحل العمل، سواء أكانت تلك النسبة عند العزم على العمل أم كانت في إقامته بالفعل أم كانت في تحصيل نتائجه.
النجاح في هذا الاختبار الثاني ليس سهلًا بالمرة، إذ إن الإنسان في ضوء قدراته الظاهرية التي خوّله الله إياها، على تدبير أسباب العمل الشرعي وإيقاعه هيئة وكيفية، يشعر بأن العمل صادر عنه.
هذا الشعور يتفاوت في حجمه عند العاملين، فقد يكون عند أحدهم “جزئيًا” إذا ما أحس العامل بتبعية ملكيته العمل لملكية الله، وقد يكون عند آخر “كليًا” إذا ما طغى هذا الشعور فغفل عن نسبة العمل إلى الله، وهو، على تفاوته حجمًا، شعور مرضي وله مردوديته على العمل نيلًا من كماله وعلى العامل إفسادًا لنظره وأفعاله.
وأودّ أن أختم بكلمة مهمة قبل الانتقال للحديث عن آثار هذا الشعور بالتملك على العامل في المرة القادمة، أنه لا يغرنّ الإنسان أقواله أو ما يلقيه الخاطر عليه للوهلة الأولى نفيًا لهذا الشعور بـ”التملك”، بمعنى ألّا يستبعد وقوع ذلك منه، لمجرد أنه ينفي ذلك قولًا، إذ إن الأقوال شيء والأفعال وما يحدث في مواضع الاختبار شيء آخر.
نحن، لعدم تمرّسنا بما نقول واختباره في مواضع الاختبار التي أشرت آنفًا إلى ضخامتها كمًا وكيفًا، معرّضون لمفارقة الأعمال للأقوال، بمعنى أننا كثيرًا ما نقول بأحوالنا وأفعالنا ما لا نقوله بأفواهنا أو ما لا نستطيع البوح به بألسنتنا، سواء أكانت عدم استطاعة البوح هذه خجلًا من الناس أم كانت جهلًا منا بحقيقة ما بداخلنا.
مقالات ذات صلة:
الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال
الجزء الثالث من المقال، الجزء الرابع من المقال
الجزء الخامس من المقال، الجزء السادس من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا