فن وأدب - مقالاتمقالات

مرسي جميل عزيز

الشاعر الذي جعل الكلمات أهم من الصوت ومن اللحن

حلت هذه الأيام ذكرى وفاة الشاعر الكبير مرسي جميل عزيز، الذي فاز بعديد من الألقاب الفنية التي لم يفز بمثلها عددًا أحد من قبل، فقالوا عنه: رائد الأغنية الحديثة، وصاحب المدرسة الرومانسية في الأغنية، ومهندس الأغنية المصرية والعربية، وشاعر الألف أغنية شهيرة، وشاعر الحب والحرير، وملك الكلمة الرقيقة، وعملاق الأغنية الشعبية، وأبو الواقعية في الأغنية، والساحر الذي ملك شفرة الكلمات، وجواهرجي الكلمة، ورسام الكلمات، وموسيقار الكلمات، لا يمكن أن يحصل شاعر على كل هذه الألقاب إلا ويكون قد تفوق في مجاله كما لم يتفوق أحد.

أحب أن أؤكد أولًا على الفرق بين مؤلف الأغاني والشاعر الغنائي، فمؤلف الأغاني يمكن أن يكتب أغنية حلوة ويمكن أن يكتب أغنية جيدة، بينما الشاعر الغنائي فهو لا يكتب الأغنية الحلوة أو الجيدة وحسب، بل يكتب الأغنية الشاعرة أيضًا، يكتب الأغنية شاعرًا وليس مؤلف أغاني، انظر إلى الأبنودي وهو يكتب الأغنية، وإلى صلاح جاهين وسيد حجاب، ستجدهم يكتبون كلمات لا يقدر على كتابتها مؤلف أغاني فهي تحتاج إلى شاعر.

مرسي عزيز جميل شاعر الألف أغنية

من المؤكد أن مرسي جميل عزيز يقف على قمة هرم الشعراء الغنائيين في مصر، في حياته وبعد وفاته، فرغم أن ما كتبه بعض الشعراء من إبداعات في مجال الأغنية قد لا يقل عن إبداعه، فإنتاجهم لم يكن من الوفرة والغزارة التي كان عليها إنتاج الشاعر مرسي جميل عزيز، وهذا عنصر مهم جدًا جعله على القمة منفردًا، القدرة على العطاء المتواصل بلا انقطاع.

في اعتقادي أنه الشاعر الذي أعطى كلمات الأغنية حقها وجعلها الرقم الأهم في معادلة الأغنية ولم تكن كذلك قبله، كانت الأغنية قديمًا تعتمد على صوت المطرب والتطريب واللحن والمقامات، كانت منيرة المهدية تغني “يا حبيبي تعالى بالعجل”، وتعيد وتزيد فيها كل مرة بأداء مختلف، ومع كل أداء للجملة ترتفع صيحات إعجاب الجمهور الذين جاؤوا من أجل أداء المطرب واللحن والتطريب، وليس من أجل الكلمات، لكن مع مرسي جميل عزيز صارت الكلمات هي الأهم والشواهد كثيرة على ذلك.

النبوغ الفني لمرسي جميل عزيز

مرسي جميل عزيز

مع عبد الحليم حافظ

قد لا يعلم كثيرون مثلًا أن أغنية “الليالي” لعبد الحليم حافظ كتبها مرسي جميل عزيز أصلًا لأم كلثوم، لكن تصادف أن سمع عبد الحليم بعض كلماتها فقال له: “يا مرسي، أنا أرى فيها نفسي”، فاعتذر مرسي لأم كلثوم وأعطاها لعبد الحليم، ولعبد الحليم حافظ كلمته الشهيرة: “يا بخت اللي يرضى عليه مرسي جميل عزيز ويديله أغنية”، لقد رفع مرسي جميل عزيز بفنه وشعره وثقافته من قدر الشعراء الغنائيين وجعلهم أكثر احترامًا من ذي قبل بكثير.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

مع عبد العزيز محمود

مرسي جميل عزيز كان في سن 18 سنة حين كتب لعبد العزيز محمود:

“يا مزوق يا ورد في عود والعود استوى..

والكحل في عينيك السود جلاب الهوى..”

فمن أين جاء بهذا النضج الفني والذهني والوجداني في هذه السن المبكرة؟ وجدير بالذكر أن هذه الأغنية نجحت نجاحًا كبيرًا، ووضعت قدم الشاعر على الطريق، وهذا مهم جدًا للشاعر الشاب، مهم له أن يُعرف وأن يكتسب الثقة مبكرًا، ثقة الناس به وثقته بنفسه، ففي البدايات يكون الشاعر متشككًا بعض الشيء حين يبتكر ويحاول أن يتحرر من التقليد، فيخشى أن لا يستساغ تجديده وابتكاره وتحرره، وأن يستغرب الناس منه، لكن هذه الشكوك تتلاشى إذا اكتسب الثقة مبكرًا بنجاح مثل هذا، وعلى ذكر الابتكار فقد كان مرسي جميل عزيز أهم المبتكرين في الشعر الغنائي، هو الذي كتب لأم كلثوم:

“ياللي ظلمتوا الحب

وقلتوا وعدتوا عليه

قلتوا عليه مش عارف إيه

العيب فيكم يا فْ حبايبكم

أما الحب يا روحي عليه”.

مع أم كلثوم

كان مفاجئًا تمامًا أن تغني أم كلثوم بشخصيتها الوقورة المهيبة فتقول “قلتوا عليه مش عارف إيه”، وتقول: “أما الحب يا روحي عليه”، لكنها كانت مفاجأة جميلة أن تطل على جمهورها بخفة الدم تلك، لقد ألبسها الشاعر رداءً جديدًا، والناس تحب الرداء الجديد وليس الرداء القديم، كما أنه ابتعد بها عن حالة المحب الشاكي الذي يسهر الليل في شجن وينام ودموعه على وسادته، وانتقل بها إلى مواضيع فلسفية وفكرية، تتحدث عن الحب نفسه وأنه ليس عارًا ولا حرامًا، فهو لا ينفصل عن الطبيعة التي خلقها الله وأبدعها.

لقد طلبته أم كلثوم لمقابلتها عدة مرات قبل أن يكتب لها، فكان يرفض الذهاب إليها من منطلق كرامة الشاعر، وأن الشاعر الموهوب ليس في حاجة إلى المطرب بقدر حاجة المطرب إلى الشاعر الموهوب، وبالفعل كانت أم كلثوم أحوج إليه من حاجته هو إليها، فهو الذي منحها هذا الشكل الجديد في وقت كانت في أشد الاحتياج إلى التجديد، مع ظهور أصوات جديدة غيرت شكل الأغنية ولفتت الانتباه مثل عبد الحليم ونجاة ومحرم فؤاد ووردة وغيرهم.

كيف كان يعتز مرسي جميل عزيز بنفسه وبالفن؟

مرسي جميل عزيز

رغم يسر حاله كان مرسي جميل عزيز حريصًا على ألا يحصل شاعر على أجر أكبر من أجره اعتزازًا بمكانته على عرش الشعراء الغنائيين، وهو ما كان يحدث بالفعل فحقق بذلك نوعًا من العدالة قوامها أن الأفضل يفوز بالأفضل، لا يمنع ذلك من أنه كان كريمًا مع الأصوات الجديدة، وكثيرًا ما تنازل عن أجره من أجل دعمهم، فعشقه للفن كان يغلب أي إغراء مالي، لكنه احترامه لفنه الذي جعله لا يقبل إلا أكبر تقدير وبالتالي أعلى أجر، وهذا لا ينفصل عن قصة رفضه الذهاب لأم كلثوم اعتزازًا بقيمة نفسه وقدرها، ذات مرة قدمت له سعاد حسني شيكًا على بياض، فقال: “من أجل ماذا؟”، قالت: “لتكتب لي”، فقال: “عفوًا أنا لا أكتب بهذه الطريقة”، ورفض الكتابة لها.

وللحديث بقية.

مقالات ذات صلة:

المعاني الكامنة في سيرة نجيب الريحاني

الشعر العربي في خطر

الفنُّ الوطنيُّ

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ . شامخ الشندويلى

الشاعر والكاتب والسيناريست المعروف