الإنسان وما سعى .. (قصة الكِبر)
تمثل رحلة الإنسان في الحياة حالة دائمة من السعي المتواصل لتحقيق أهداف يرى فيها سعادته وراحته، وأيضًا غلبته وانتصاره ونفوذه وسطوته، وفي الثقافة الإسلامية سنرى أن مفهوم السعي متعدد، لكنه في الأحوال كلها متوقف على المراد من هذا السعي، لأنه في الأحوال كلها سيتحمل نتائج هذا السعي، وفي الأحوال كلها سيجازى على هذا السعي، وفي الأحوال كلها سينتهي مسار هذا السعي إلى “المنتهى”.
أين هذا المنتهى؟
المؤمنون بأن هذا الوجود يحمل في حمولاته كلها ما يؤكد بيقين أن هناك أمرًا مقدسًا يحيط به، سيعلمون أن المنتهى سيكون إلى خالق هذا الوجود، الوجود الذي لم يخلق نفسه كما يقولون.
غير المؤمنين بذلك سيلقون أنفسهم في بئر سحيقة من العدم والعبث والحيرة، لا لشيء إلا لأن في صدورهم “كِبر” أكبر من قدراتهم، فيجادلون في قوة الدليل والبرهان على بديع الصنع والخلق بلا علم ولا فهم (سورة غافر 56).
الكِبر قصة مروعة ومثيرة وغريبة في الحقيقة، بدأها إبليس بموقفه الشهير، وسـ”يتأبلس” بها في الحياة الأرضية مع أبناء سيدنا آدم أبلسة هائلة، وستصل إلى حدودها القصوى.
إذ سنسمع من يقول للناس: “أنا ربكم الأعلى”.
وسنسمع من يقول: “أنا أحيي وأميت”.
وسنسمع من يقول لرسول من عند الله: “اذهب أنت وربك فقاتلا”.
وسنسمع من يقول لرسول من بعده: “هل يستطيع ربك؟”.
الليلة طويلة للغاية في مسار ظلامات الكِبر، الذي ستمنحه اللغة صورًا وألوانًا عديدة، وسيحترف بعضهم اللغة في مدارات هذا الكِبر احترافًا مهولًا، وسعملون أشكالًا لا تنتهي من الإيهام والتضليل، حتى تمنع اللغة من التفكير والإدراك والإفهام، واللغة التي لا تفكر “لغة بلهاء” ضالة مضلولة مغشوشة، كما يقول علماء اللسانيات.
ليل نهار سنسمع من نتنياهو وساعر وويتكوف مبعوث ترامب لغة بلهاء ملساء عارية، ولا أدرى علام يعتمدون في اعتبار أن هذه لغة خطاب؟!
هل يعتمدون على ما كان يعتمد عليه من قال يومًا أنا ربكم الأعلى؟ أقصد الاستخفاف والانحراف، هذا الأقرب للتوقع.
لأننا سنرى أن هذا الثنائي سيكون حاضرًا دائمًا في حالات كثيرة متكررة، الاستخفاف بعقول الناس والرهان على فسادهم، بل ومزيد من الإفساد.
سيكون ذلك كله أثرًا من آثار الوهم الذي سيأخذ صورة الحقيقة ويبدو بديلًا لها، وسيُقدَّم المعنى عن طريقه للناس بوصفه نهائيًا وقطعيًا ولا يقبل الاحتمال.
كما نبهنا المفكر الفرنسي “رولان بارت” ووصف ذلك بأنه: “اللحظة التي يتسرب فيها الموت في الخطاب إلى جسد اللغة، ومن جسد اللغة إلى الفكر، لتتكرس في النهاية بداهات وبلاهات، وتتوسع لعبة الإيهام وتتمدد”، وعيش يا أبو العيش.
سيتطور الكبر مع تطور الإنسان، ولغة الإنسان، وأفكار الإنسان، وعلوم الإنسان، وأخيرًا نظرة الإنسان لنفسه وللكون من حوله، لكنه في نهاية الأمر سيموت موتًا رخيصًا، موتًا لا معنى له.
وهل للموت معنى أصلًا؟ للموت معنى أصيل، وهو مقدّم على الحياة في قصة الخلق، وسيحمل الإنسان معه موته من يوم ميلاده، وصدق أبو العلاء في بيته العميق:
نفر من شرب كأس وهي تتبعنا **كأننا لمنايانا أحياء!
لكن الكبر سيلاحقه ليفقده توازنه، وسيلاحق هو الكبر! ولن يبلغه، ليس فقط لقصر حياته وسرعة فنائه، لكن لضعفه الذي سيلاحقه في كل وقت.
على أية حال، هذا هو واقع الحال، والإنسان هو من سيختار لنفسه كيف ستكون تلك المسافة المجهولة، بين ساعة ميلاده وساعة مماته؟
لم يختر الساعتين! نعم، لكنه سيكون قادرًا على التفكير ماذا وكيف سيكون ما بينهما.
أكل وشرب وزخرفة رائعة مترعرعة، مليئة بالهنهنة البلهنية المليئة بالضباب والسراب والخداع اللذيذ للنفس والناس؟ أم شيء آخر؟
شيء يمنح هذه الحياة معنى يسمو بها وعليها، شيء يختزل تلك الحياة في فهمها الكلّيّ الشامل: مشيئة كبرى اصطنعتنا لغرض كبير، فمحض الحياة أمر لا يهتم به الرجل العاقل، لأنه دائمًا سيطلب الحياة الصواب، شيء يجعل الحياة كأنها تترعرع في حضن الموت، والموت كأنه يعيش في حضن الحياة، ليكوّن الثلاثة، الإنسان والحياة والموت ذاك الكل الكريم.
هذا كله وأكثر منه قالته لنا “غزة” في 600 يوم، والله وحده يعلم ماذا تمثل تلك الأيام، في قياس اليوم الذي هو عند الله بألف سنة مما نعد، ستكون تلك الأيام الــ600 بل الدنيا كلها هنيهة فقط، غمضة عين.
كما قال لنا الروائي الدنماركي “كارل بيارنهوف” في رواية “وشحبت النجوم” التي تحكي قصة شاب يقترب منه العمى كل يوم، وكان أبوه يأخذه إلى دار “الكفيفات” ليسمع منهن نشيد “اليوم عند الله بألف سنة مما عندنا، إنه هنيهة) ويردد معهن في نهاية النشيد، هنيهة، هنيهة، هنيهة.
حتى يتخفف جميعهم من أحزان العمى، التي لن تطول مهما بلغت آلامها.
لكننا تعلمنا في تلك الهنيهة، ما كان يحتاج إلى عشرات السنين لتتعلمه أجيال وراء أجيال. وهو ما حدث فعليًا للعالم كله من بعد 7 أكتوبر، وهذا هو “جوهر الإنكار” لفضل هذا الحدث الأعظم، لقد طوى لهم الزمن الذي استطالوه على أعناقنا وقفز بالتاريخ قفزة واسعة، للمستقبل الذي كانوا يحتكرونه.
فكمية “المكذوبات” التي أصبحت عارية عرى الأصابع لا تعد ولا تحصى، وكلها مكذوبات من النوع الثقيل وكلها كانت تملأ وجه القرن العشرين كأنها حقيقة الحقائق، وكلها كانت تتهيأ لتملأ وجه القرن الحالي أيضًا كأنها أم الحقائق، لكن “الطوفان” أوقفها.
والأعظم والأخطر، أنه اقتلعها من جذورها وألقى بها في أحقر المزابل أمام أعين الجميع، بداية من أسطورة الكيان المهلهل شعبًا وجيشًا، وروايته الكذوبة عن نفسه وتاريخه، ونهاية بأكذب المكذوبات عن الغرب الحضاري الإنساني!
وما موقف الحكومات الغربية الأخير إلا ذرٌ للرماد في العيون، بعد أن تجرعوا من دمائنا ودماء أبنائنا في غزة ما يكفي لتلويث أعمارهم كلها في الأزمان كلها بالخزي والعار كله.
لكن نهاية المكذوبات الرخيصة التي ملأت فضاءنا العربي شرقًا وغربًا قصة أخرى، وستكون نهايتها مسألة وقت لا أكثر، فلم يعد الناس يرون التاريخ من “ثقب إبرة” كما فرضت عليهم رؤيته طويلًا.
سعى رجال المقاومة في “غزة” سعيًا لم يتركوا فيه شيئًا واحدًا للصدفة، إذا كان لهذا اللفظ من معنى في حياة كلها قدِّرت تقديرًا.
وقدموا أعظم عمل في التاريخ العربي المعاصر، وليست عظمته فقط في أحداثه وهي عظيمة، ولا في أشخاصه فقط وهم من عظماء التاريخ، لكن تكمن عظمته كلها في جوهر الفهم الذي قدموه للأمة كلها، عن معنى وقيمة “السعي المجيد” بين يدي الحياة والموت.
لكرامة الإنسان، وكرامة الحياة، وكرامة الموت.
مقالات ذات صلة:
توبة إبليس وفلسفة الصفر والكربون
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا