قضايا وجودية - مقالاتمقالات

توبة إبليس وفلسفة الصفر والكربون

سيظل طائف إشكال توبة إبليس الباغي يطرق عقولًا كُثرًا، لكنه سيرجم بسهولة ويغادر مدحورًا.

لكنه يتخذ متسع الإدراك بوابة، ومن ميوعة الالتباس عنوانًا، ومن منطقة التفكير السفسطائي ريحًا ونيرانًا.

المدخل السفسطائي معصوب العينين، يطلي الحديد الصدئ بفرشاة منطق عقيم ليجعله مطليًا بهيًا وهو هش، يعلن البراءة من جزيئات خيبته وهشاشته من الهيدروكسيد.

توبة إبليس

لقد وصف توفيق الحكيم إبليس بأنه الشهيد، جاعلًا من فرضية توبته إشكالًا فلسفيًا، إذ كتب في مجموعته القصصية التي كانت تحمل عنوان “أرني الله” قصة الشهيد، وهي تتحدث عن الشيطان الذي أراد أن يتوب.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يذهب إلى رموز الديانات الثلاث، المتمثلة في بابا الفاتيكان والحاخام اليهودي وشيخ الأزهر، وجميعهم يقولون له: “إنك ملعون وليس لك توبة”.

يأخذنا توفيق الحكيم في حيثيات معضلة توبة إبليس، والتي بها ستنتهي فكرة الصراع بين البشر وإبليس، بل وستكون لا فائدة من امتحان الحياة.

رغم جمال الحكي الأدبي في تلك القصة، الذي أبهرنا به المبدع الكبير توفيق الحكيم، إلا إنه وصف ذلك الطريد بأنه شهيد، إذ إنه لا يجد حلًا ينهي مأساته ويخرجه من دائرة الغضب الإلهي.

لم يكن توفيق الحكيم الوحيد الذي وقع في فخ إشكال توبة إبليس، بل إن الكثير في الماضي والحاضر يطرق ذهنهم طائف ذلك الإشكال.

الحكمة من خلق إبليس

يعتقد الناس أن وجود إبليس ركيزة أساسية لاستمرار تجربة الحياة، وهو الذي به يتحقق وجود النعيم ووجود العذاب، باعتبار أنه هو الشرير الذي يغوي، وبدونه تنتهي الغواية وينزل الستار.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

بل إنهم يستدعون الميثولوجيا اليونانية القائمة على فكرة صراع آلهة الخير والشر، معتبرين أن هناك صراعًا بين الله والشيطان ورهانهم هو الإنسان.

تلك المغالطة التي صاحبت العقل الديني لأصحاب الديانات السماوية المعتبرة، وأصبغت صبغة وجودية لإبليس لا وجود لها في الحقيقة.

ستظل النفس البشرية تعصي حتى لو انسحب إبليس من مسرح الأحداث، لأنه بوسوسته يستدعي شرورًا وطغيانًا ويحفز الشهوات.

لقد نبهنا الله أن دور إبليس الخفي هناك دور لا يقل عنه في الذين وصفهم بأنهم شياطين الإنس.

ما هو دور الروح في الجسد؟

clouds 3978912 1280 1024x576 - توبة إبليس وفلسفة الصفر والكربونلقد خلق الله الإنسان ونفخ فيه من روحه، لتكون مقوّمًا لاعوجاج نفسه ووسيلة تبقيه على الوصال بالله منبع الروح الأول.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

في رحلة الإنسان الأرضية سيعصي ويتوب ويستكبر ويطغى، فيتعرف على الله الغفور التواب والمنتقم سريع الحساب، ويصير للنار دور لتنقية مفسدة من طغت غيوم دخان نفسه على نور روحه، وتصير الجنة منة وجزاءً وعوضًا لمن حزن وعنت في الدنيا.

من صفات الله أنه عليم وأنه قادر أن يأتي كل نفس هُداها: “ولو شئنا لأتينا كل نفس هُداها”.

لكن التجربة الحياتية الكاشفة عن الله هنا ستنتهي، لتدخل الله الصارخ في الهداية بتأييد من الروح، أو بترك النفس لشططها ومفسدتها في الأرض.

كما كان ذلك واضحًا في الخلق الطيني الذي كان في الأرض قبل الإنسان، والذي سفك الدماء، والذي اعتقد إبليس والملائكة أن آدم البشري سيكون مثلهم لعنصره الطيني، إلا أنهم غفلوا عن المنحة الربانية التي حباها الله لآدم بالنفخ فيه من روحه.

الفرق بين معصية آدم ومعصية إبليس

الرمزية في القرآن وعدم الوضوح التام لهي هدف من الله، ليكشف لنا به عن فضله على بعض خلقه الذين وهبهم الحكمة ليحققوا وصال الروح مع الله الحكيم.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إن الله عليم لا يخضع للزمان والمكان، وبيده مقاليد كل شيء، ويحول بين المرء وقلبه الذي يستقر فيه إدراكه ووعيه.

لذا فإنه لعن إبليس لأنه يعلم أنه لن يتوب، وأنه لم يعص عصيانًا كعصيان آدم الذي كان مبعثه الشهوة، ولكن عصى عصيان القطيعة مع صفات الله وتكبره عليه، فقطع نور وريد الله العليم واجتث جمال ملمس الله الحكيم القدير.

لقد كان الفيلسوف إيمانويل كانت يقول: “إن المسائل الفلسفية القائمة على فكرة الزمان والمكان هي عديمة النفع ومستحيل الإجابة عنها، لأن العقل مجبول على المزامنة”.

اقرأ أيضاً: سوء التغذية الروحية

اقرأ أيضاً: ما هو الشر؟ ولماذا خلقه الله وسمح به؟

اقرأ أيضاً: البحـــث عن الله

هل يوجد توبة لإبليس؟

لكني أقول هنا أن مسألة توبة إبليس هي في ذاتها عديمة النفع أو صفرية النفع، ولكن يخرج منها نفع كثير مثل الصفر والكربون.

الصفر في ذاته عديم القيمة، ولكنه يضاف إلى غيره فتصير له فائدة، والكربون إذا انتظمت بلوراته في شكل متوازي مستطيلات كان الناتج فحمًا، وإذا انتظم في شكل بلورات مكعبة كان الناتج ألماسًا.

من نتائج مسألة توبة إبليس النافعة أن بها تلميحًا جميلًا يدل على أن الله هو الذي بيده كل شيء، وهو يعلم أن إبليس مكابر ولن يتوب ولن يتخلى عن كبره.

هل طلب إبليس المساعدة؟

d9a973b3043ddd7ec50a5ba3cdaa5967 - توبة إبليس وفلسفة الصفر والكربونلقد قال الله عن أبي لهب أنه سيصلى نارًا ذات لهب، موضحًا لنا أن أبا لهب سيموت ولن يؤمن، ليلفت انتباهنا إلى ذات الله وصفاته.

يا من تتشدق بمأساة إبليس.. انظر لمأساتك ولا تتحدث عن لسان أحد وتكون له وكيلًا.

كان الأحرى بتوفيق الحكيم أن يكون الراوي لقصة بطلها سيقوم بها، ولكن إبليس لن يقوم بها مطلقًا.

إني أتساءل: هل إبليس تجسّد لهؤلاء وطلب منهم المساعدة والوساطة مع الله؟ علمًا بأن إبليس كان يشهد الملأ الأعلى ويعرف وصاله مع الله بسهولة عن هؤلاء!

لماذا غضب الله على الشيطان؟

إبليس ليس بشهيد تتجلى فيه مأساة المشيئة والإرادة، بل هو صفر يجعل للفلسفة الصفرية قيمة ليست فيه، وإنما للكشف عن مكنون الله الذي اتضح من خلال هؤلاء المتكبرين مثل إبليس أو شياطين الإنس.

قد يبدو مصطلح الفلسفة الصفرية غريبًا مستحدثًا، بل إنه يذكرنا أيضًا بجماعة الصفرية –بضم الصاد أو كسره، باختلاف الروايات– والتي هي طائفة من الخوارج الذين خرجوا عن عباءة جماعة الأزارقة الخوارج واختلفوا معهم.

لم يكن الله ليعذب أحدًا إلا بعدما يعطيه القدرة على الاختيار، بل ويمد له بيد القدرة حبال النجاة كهداية معونة. فالله القيوم العدل هو قيوم على نفسه لا يظلم ولا يرضى لعباده الكفر وهو العزيز الحكيم.

إبليس المتكبر فضحته سجدة آدم، فقد كان يريد دائمًا أن يكون هو المتصدر في المشهد، لا حبًا في الله ولكن حبًا في زيغ نفسه، التي ترفض الحق وتغمط الناس، ويغيب عنها بلثام الكبر أن الله هو المعطي وهو الوهاب والمحيط والذي يعلم وغيره لا يعلم وهو الغفور الرحيم.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. محمد السيد السّكي

استشاري التحاليل الطبية وكاتب روائي

مقالات ذات صلة