مقالات

حكمة الأحمق وحماقة الحكيم .. الجزء الثاني

لا شك أن فكرة تجلي الحكمة كحماقة، على الأقل من وجهات النظر بعضها، تعود إلى قصة «أفلاطون» الرمزية الشهيرة عن الكهف في «محاورة الجمهورية»، ففي هذه القصة الرمزية، يطلب منا «سقراط» أن نتخيل جموع البشر كالسجناء المقيدين بالسلاسل في كهف مُظلم، والنار مشتعلة خلفهم. وبين السجناء والنار تمر مجموعة غامضة من مُحركي الدمى يحملون نماذج لأشياء مثل البط والأبقار والطاولات والطائرات الضخمة. يرى السجناء ظلال الدمى المتلألئة على الحائط، فيفكرون: انظر، بطة، بقرة، طاولة، كرسي، طائرة ضخمة! وهم يأخذون هذه الظلال الوامضة على أنها الواقع برمته. لكن في أحد الأيام، أُطلق سراح أحد السجناء ليخرج من الكهف إلى ضوء الشمس. ها هو يرى الواقع بثرائه كله غير المزخرف، يرى البط والأبقار الحقيقية، يرى الطاولات والكراسي، ويرى الطائرات تمر في سماء المنطقة! يُدرك أن الواقع أكبر وأغنى بكثير مما تصوره من قبل، وأنه لم ير في الكهف سوى ظلال نماذج لأشياء حقيقية! لذا، يُسرع مدفوعًا بالتعاطف مع زملائه السابقين في السجن، بالعودة إلى الكهف لإخبارهم بالحقيقة. لكنه عند وصوله إليهم، إذ ما زالوا يثرثرون عن الأشياء التي يرونها، ينظرون إليه في شفقة، ويستمعون إليه في حيرةٍ بالغة: ما الذي يتحدث عنه هذا الشخص الغريب؟ ما يذكره عن العالم خارج الكهف يدعو إلى السخرية، فيعنفونه ويطردونه، وربما قتلوه!

إن قصة الكهف الرمزية معقدة، لكنها تجلب لنا مفارقة متأصلة في قلب بعض أفكار الحكمة، فإذا نظرنا إلى الحكمة على أنها شيء بعيد المنال ولا يمكن الوصول إليه، شيءٌ مختلف تمامًا عن الطريقة المعتادة لرؤية العالم، فإن الحكمة ستبدو في نظر العالم غريبة جدًا، وقد لا نستطيع تمييزها عن الجنون. بالنسبة إلى الحكماء، قد تبدو الحياة اليومية مُفعمة الجنون، لكن بالنسبة إلى أولئك الذين يتعثرون في دروب الزيف لحياتنا اليومية قد تبدو الحكمة مجنونة بالقدر ذاته! وتلك هي النقطة التي أشار إليها كاتب عصر النهضة الهولندي «إيراسموس» (Erasmus 1466 – 1536)، في مقاله «مدح الحماقة» (In Praise of Folly 1509 – 1511).

يبدأ هذا المقال (أو الكُتيب) بإهداء من «إراسموس» إلى صديقه الفيلسوف «توماس مور» Thomas More) 1478 – 1535)، ثم تصدير بخصوص سبب اختيار العنوان، وفيه يُعلّق «إراسموس» تعليقًا فكاهيًا على التشابه بين كلمة «أحمق» اليونانية (Moriae)، واسم عائلة صديقه الأعز، السير «توماس مور» (More)، ويقول: بما أن السير «توماس مور» أبعد الناس قاطبةً عن الحمق، فلن يربط القرّاء بينه وبين الحماقة المقصودة في عنوان المقال. بعدها يتناول «إراسموس» بالسخرية والنقد الممارسات الفاسدة والخزعبلات التي لوّثت العقيدة الكاثوليكية في زمنه. ورغم وفائه للعقيدة الكاثوليكية وإيمانه بها، يبدو أن عودته محبطًا من زيارته إلى روما بسبب ما رآه من مفاسدها، قد دفعته إلى هذا النقد التهكمي اللاذع. وفي هذا الموقف يذكّرنا بإحباط «مارتن لوثر« (Martin Luther 1483 – 1546) فيما بعد– حين زار روما وصُدم بالفساد المستشري بها. كذلك يمتد الهجاء الفكاهي في المقال إلى الجميع: من ممثلي المسرح والكُتَّاب إلى الملوك ورجال الدين. لكن الكنيسة الكاثوليكية كان لها النصيب الأكبر من الهجاء الساخر. ولا تأتي السخرية على لسان «إراسموس» نفسه، بل على لسان شخصية نسائية ابتكرها وأعطاها اسمًا يعني: «الجنون» أو «الحماقة»، إذ تُصور الحماقة أنها شخصية ميثولوجية يونانية، وابنة لبلوتوس (Plutus) إله الثروة، ومعها صديقاتها المقربات: «فيلوتيا« (Philautia) (حُب الذات)، «كولاكيا» (Kolakia) (الإطراء)، «ليثي» (Lethe) (النسيان)، «ميسوبونيا» (Misoponia) (الكسل)، «هيدون» (Hedone) (المُتع الحسية)، «آنويا» (Anoia) (الخرف)، «تريفي» (Tryphe) (الخلاعة والاستهتار)، «كوموس» (Komos) (الإسراف)، «إيغريتوس هيبنوس» (Nigretos Hypnos) (النوم الثقيل).

تمدح «السيدة – الجنون» نفسها في المقال بقوة وإصرار، مؤكدةً أن الحياة من دونها ستكون قطعًا مملة ومقيتة، وتقول عن الوجود الأرضي متفاخرةً بذاتها: «لن تجد شخصًا مرحًا أو محظوظًا لا يدين لي». وتقول أيضًا: «لا يغرنك شخص متفلسف يطيل لحيته ليعطي انطباعًا بالحكمة، تذكر أن الماعز أيضًا يمتلك ذقنًا طويلًا»! هكذا يرفع «إراسموس» الحماقة إلى أعلى المستويات الميتافيزيقية، مُدشنًا ما يُمكن أن نسميه «جدلًا ضد الحكمة المدرسية القاتمة»، في حين أن السمة المميزة للواقع هي الحماقة التي تشمل وتغشى كل شيء!

في محاورات «أفلاطون»، يُشار إلى «سقراط» أحيانًا باسم «أتوبوس» (Atopos)، وهي كلمة تعني حرفيًا «في غير محله أو مكانه»: غريب! وهذه الغرابة شارك فيها كثرة من فلاسفة اليونان القدماء. وكما أشار الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي «بيير هادوت» (Pierre Hadot) (1922 – 2010): في العالم اليوناني، كان يُنظر إلى الفلاسفة في كثير من الأحيان أنهم حالات شاذة، إنهم لا يتكيفون مع الأوضاع القائمة، ويتوافق أسلوب وجودهم وحياتهم مع رؤية مختلفة عن تلك السائدة. لكن في حين نعيش نحن عيشة مختلفة جذريًا، فإن حياتنا بالنسبة إلى الفلاسفة يجب بالضرورة أن تبدو غير طبيعية، كأنها حالة من الجنون، وفقدان الوعي، والجهل بالواقع!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أحد الأمثلة الحديثة هو الفيلسوف «هانز جورج موللر» (Hans–Georg moeller) (الأستاذ بجامعة مكاو (Macau) الصينية، في كتابه «الأحمق الأخلاقي» (The Moral Fool) (2009)، الذي يقدم فيه دفاعًا عن النزعة اللا أخلاقية (Amoralism) عبر موقف «الأحمق الأخلاقي» أو شخصيته، واصفًا هذا الأخير بأنه الشخص الذي يرفض المنظور الأخلاقي تمامًا، بما في ذلك الأحكام الأخلاقية والقيم والأفعال والمبادئ والفضائل، نظرًا لعدم وجود أي ارتباط بين مقدار التواصل الأخلاقي الموجود في المجتمع، ومدى فاعلية (أو خلل) هذا المجتمع!

بعبارة أخرى، لا يمكن للمرء أن يقول إن الأخلاق خير أو شر. وبالمثل، لا يمكن للمرء أن يقول إن الفأس أو البندقية خير أو شر، فالأخلاق يمكن أن تكون خطيرة بحيث ينبغي توخي الحذر معها، وهذه الفكرة يتجاهلونها في كثير من الأحيان. لا شك أن الاهتمام بالأخلاق، في ازدياد كبير جدًا في السنوات الأخيرة لدى شرائح المجتمع والمهن كافة: في السياسة ووسائل الإعلام والاقتصاد والبيولوجيا والذكاء الاصطناعي وغيرها، لكن إذا كان من الضروري للمرء في هذه الأيام أن يُفكر في المسائل والمشكلات الأخلاقية، فمن الضروري أيضًا أن يفكر في كيفية كون الأخلاق جيدة أخلاقيًا!

قد نتحدث مثلًا عن العدالة والمساواة والإصلاح، فهذه بعض أعظم قناعاتنا الأخلاقية. ومع ذلك، في أوقات الصراع الاجتماعي، يمكن أن تصبح الأخلاق جامدة أو ازدواجية، مما يجعل الحرب الدينية، والتطهير العرقي، والتطهير السياسي أمرًا ممكنًا. (ما يحدث في غزة من إبادة ممنهجة لشعب يدافع عن أرضه يُعد مثالًا جيدًا على ازدواجية الأخلاق الغربية، وكذلك تبريرات الإعلام والمؤسسات الدينية الحكومية لهيمنة وفساد النظم الدكتاتورية)، لذا يمكن النظر إلى الأخلاق أنها «علم أمراض» (Pathology)، أي أداة بلاغية ونفسية واجتماعية تُستخدم ويُساء استخدامها وفقًا لمصالح القوى المهيمنة!

يوضح موللر إن موقفه «اللا أدري» (Agnostic) بشأن الأخلاق –موقف الأحمق الأخلاقي– ينص على أننا «لا نستطيع في النهاية أن نعرف ما إذا كانت الأخلاق جيدة أم سيئة»، إن الأحمق الأخلاقي ببساطة لا يفهم لماذا تكون الأخلاق جيدة بالضرورة. إنه لا يعرف ما إذا كان المنظور الأخلاقي جيدًا بأي شكل، ولا يعني هذا ببساطة أنه ليس لديه أحكام أخلاقية على الإطلاق، لكنه –شأن معظم الناس في كثير من الأحيان– لا يفكر ولا يتحدث بمصطلحات أخلاقية، وحتى عندما يفعل ذلك، فإنه غالبًا لا يكون على يقين تمامًا بما هو أخلاقي وما ليس كذلك.

لعل التشابه واضح بين أحمق «موللر» الأخلاقي و«سقراط»، إذ تعترف هذه الشخصية الغريبة وغير النموذجية –كما فعل «سقراط»– بعدم معرفة ما هي الفضيلة (وبهذا المعنى، نكون جميعًا في بعض الأحيان حمقى أخلاقيين). لكن الأحمق الأخلاقي يتجاوز «سقراط»، لأن الأخير، بتوصله إلى هذا الاستنتاج، يضاعف بحثه عن الفضيلة، أما الأحمق الأخلاقي، الذي يعلم أن الفضيلة يمكن أن تُسبب أنواع المشكلات، فيتخلى ببساطة عن البحث مُستسلمًا لواقعٍ بلا حكمة، ولعل في هذا حكمة من نوعٍ ما!

هل سبق لك أن واجهت شخصًا قد يبدو للوهلة الأولى غبيًا تمامًا، لكن عند الفحص الدقيق يتبين لك أنه حكيمٌ حكمة ملحوظة؟ وإذا أصبحنا جميعًا حمقى أخلاقيًا، فكيف سيبدو العالم؟ هل سيكون أفضل؟ أم سيكون الأمر أسوأ؟

مقالات ذات صلة:

الجزء الأول من المقال

الواجب الأخلاقي ودلالاته عند إيمانويل كانط

سقراط وتهمة إهانة الآلهة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية