مقالات

غريزة البقاء عند المصريين .. الجزء الأول

ينشغل البشر جميعًا بالخلود، قبولًا بإفراط شديد كاسح ورفضًا بأقل القليل. من هذا ولدت غريزة البقاء، التي يتشارك فيها الإنسان والحيوان، وإن تفاوتا في تقدير الأسباب التي تؤدي إليها، ففي حين أنها عند الحيوان موثوقة بالافتراس والاستحواذ والهيمنة والجور على ما هو أدنى من القوة كله، لا تكون عند البشر بهذا الارتباط في كل حال، إذ إن العقل يهذب التوحش، لا سيما مع التقدم الحضاري، إذ تُرفع قاعدة “البقاء للأصلح” في وجه “البقاء للأقوى” ويكون للعمران والخيرية دور واسع في صنع البقاء، أو جلب الاستمرار على قيد الحياة، ويكون الإدراك مختلفًا لقيمة الحياة نفسها، وعلى النقيض إدراك الضرر المترتب على الموت، ما يعني –بمفهوم المخالفة– أن شعور الإنسان بفكرة البقاء قوي وراسخ.

ما بعد الموت عند المصريين القدماء

هذا البقاء الدائم، باعتبار الإنسان إن لم يكن أزليًا فهو أبدي اتكاء على الإيمان بخلود الروح، انشغل به المصريون منذ القدم، إذ اهتموا بحياة ما بعد الموت، وكان لهم تصورهم عنها، الذي ترجموه في الشق المادي من حضارتهم العريقة. فقد كان قدماء المصريين يقولون عمن مات: “سافر طويلًا في الغروب”. أي أنهم قد أدركوا أن الموت محض رحلة، ينتقل فيها الإنسان من عالم إلى آخر، وأن البعث قادم لا محالة. ولهذا كانوا يبنون مقابرهم في الغرب، ويقيمون بيوتهم بعيدًا عن النيل، في أحد أسرار الحياة الباقية إلى قيام الساعة.

لم يقف المصريون في هذا الاشتغال عن ما بعد الموت بالطبع، لكنهم عملوا على أن يكون قائمًا في الدنيا، ليس للفرد فكل مولود لا محالة ميت، إنما لتواصل الوجود والاكتساب الاجتماعي، والعطاء الحضاري، والجينات المعرفية والثقافية، وأداء الدور أو المهمة أو الوظيفة في المحل والإقليم والعالم.

وما يميز التجربة المصرية في “البقاء” أنها صنعت حضارة لها ارتباط بما بعد الموت، ولم تحول هذه القيمة إلى محض “منفعة بيولوجية” دنيوية فقط، أو أيديولوجية عنصرية ترى أن غريزة البقاء لا بد من ارتباطها بالصراع المسلح، مثلما وجدنا في بعض الأفكار المادية الغربية الحديثة والمعاصرة، التي أنتجت النازية والفاشية وما تقومان عليه من تبرير التوسع على حساب الغير، وفق نظرية “المجال الحيوي” وغيرها، ونراه أيضًا في سلوك الولايات المتحدة الأمريكية التي تهيمن على العالم المعاصر باسم تحقيق البقاء لإمبراطوريتها، التي تفرط شديدًا في استخدام القوة.

( ونكمل الأسبوع المقبل)

مقالات ذات صلة:

رقصة الموت

ثقافة الموت

حال البشر ومآلهم

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري