الدولة الخزرية.. تسمع عنها؟
في يوم من أيام التسعينيات الجميلة، تحديدًا يوم ١٧ أبريل لسنة ١٩٩٣م، صحي جمال من النوم عشان يعمل كباية شاي، لكن أنبوبة الغاز كانت منفسة، ومسافة ما ولع البوتجاز محسش بحاجة، حادثة مأساوية، لكنها حادثة زي أي حادثة بتحصل كل يوم.
لكن الغريب بقى، إن مفتش صحة الجيزة بعد فحصه، طلع تقريره إن جمال مماتش بالغاز، ولا بالنار، جمال مات قبلها، يعني حادثة مفبركة، وهنا البحث الجنائي بيبدأ يدور في شقته ويسأل الناس.
بيكتشف إن فيه اتنين أجانب أجّروا الشقة اللي فوقيه قبل الحادثة بشهرين ونص واختفوا بعدها، والطباخ بتاعه يومها رجله اتكسرت وروح بلدهم، سألوا عنه هناك، ملوش أي أثر، وبالبحث أكتر لقوا إن فيه ٣ مسودات لكتب كتبها جمال اختفوا من مكتبته، كان ناوي ينشرهم قبل الحادث، وهنا الموضوع بقى فيه شبهة جنائية، أو اغتيال بمعنى أصح.
طيب ليه فيه أجانب عايزين يتخلصوا من جمال حمدان؟ صاحب كتاب الأنثروبولوجيا؟
آرثر كوتسلر
في إنجلترا، كاتب من مواليد ١٩٠٥م من أصول هنغارية اسمه آرثر، ليه مؤلفات كتير جدًا كلها في سياق الأصول الحقيقية للشعوب، في التمانينيات كان عنده سرطان بقاله فترة، وفجأة في الأول من مارس سنة ١٩٨٣م، لقوه ميت مسموم، وشاع عنه أنه مؤمن بمبدأ الرحمة ويمكن الآلام اشتدت عليه فقرر أنه خلاص، بس الغريبة إن مراته هي كمان لقوها معاه، طيب ليه؟ كده بردو فيه شبهة إجبار أو اغتيال، أو غموض محيط بوفاته بمعنى أدق.
ليه فيه أجانب عايزين يتخلصوا من آرثر كوتسلر؟ صاحب كتاب القبيلة الثالثة عشر؟
ببساطة، الاتنين طرحوا سؤال محير شوية، مع إنه سؤال بسيط جدًا لكن الإجابة عليه بتهاجم فكرة وجود شعب كامل، بتهاجم أصل وحتمية وجود ما في منطقة بيدّعوا امتلاكها، بتهاجم ملايين الدولارات المصروفة على الدعاية، بتهاجم قضيتهم وحروبهم ونَسَبهم ومقدساتهم وكل حاجة، وكان من الطبيعي إنهم يسخّروا كل جهودهم القانونية وغير القانونية عشان يلغوا الفكرة دي من الوجود، ويخلوك دلوقتي حتى لو كتبت على جوجل السؤال ده مش هتلاقي إجابات كتير يا دوب حاجات بسيطة كده.
السؤال: ليه ٩٠٪ من الكيان من أصول أوروبية؟ هم مش قبائل شرقية وأسباط؟
من هم الخزر؟
إجابة السؤال ده يخلينا نرجع تاريخيًا لدولة قوية، قامت في فترة تاريخية مهمة جدًا في قلب الطريق بين أكبر مملكتين في التاريخ، وليها أهمية تاريخية كبيرة جدًا، بس بيتم دايمًا تهميشها لنفس السبب بتاع السؤال اللي فوق، ويمكن متعرفش عنها كتير لأسباب كتير، نناقشها سوا.
الدولة الخزرية.. تسمع عنها؟
بص، في القرن السابع ميلاديًا، كان فيه إمبراطوريتين كبار جدًا في وقتهم ودايمًا في حرب مع بعضهم، الشرق إمبراطورية الدولة العباسية في العراق ومصر وشمال إفريقيا وخلافه، والإمبراطورية البيزنطية في الغرب، في النص ما بينهم كانت أرض واسعة، النهاردة جزء من تركيا وأذربيجان وروسيا وأرمينيا وكزاخستان وأوكرانيا، الحتة اللي في النص دي ما بين كييف والمجر وقزوين، الحتة دي كان بيسكنها محموعة من الناس من أصل تركي اسمهم “الخزر”.
الكلمة نفسها معناها البدو المرتحلين، مجموعة من البدو عاشوا في الأرض الواسعة دي، اليمين بيحاولوا يضموهم والشمال بيحاولوا يضموهم، وهم نفسهم مكانوش يدينون بمعتقد سماوي إنما كانوا مؤمنين بحاجة اسمها “التنكرية”، وده معتقد قديم كده شبه معتقدات المنطقة دي في فترتها زي المغول مثلًا.
اقرأ أيضاً: السياحة في أذربيجان إحدى أجمل جمهوريات القوقاز
موقع مملكة الخزر
بعد قرن من الحروب مع بداية عصر الخلافة وعصر الفتوحات واتحادهم لفترة مع بيزنطة، السكان في الحتة دي لقوا إن موقعهم استراتيجي جدًا، على طريق من أشهر طرق التجارة “طريق الحرير” ما بين الشرق والهند والصين، وده كسبهم فلوس عمرهم ما كانوا يحلموا بيها، وده كمان فتح الطرق لهجرة شعوب تانية ليهم زي الفنلنديين مثلًا، والفرس، وخلافه.
في القرن التامن الميلادي، حصلت هجرات من بيزنطة في عهد الأباطرة يوستنيانوس الأول وهرقل وليو الثالث وليو الرابع ورومانوس، منهم علماء أجبِروا على الهجرة بسبب تضييق المعيشة عليهم في الفترة دي في مملكة بيزنطة.
عاشوا واستقروا في ظل مملكة الخزر اللي بدأت تزدهر وفيها تسامح، ومش خاضعة لا للعباسيين شرقًا ولا البيزنطيين غربًا، بس زي ما قلنا الموقع الجغرافي للمملكة دي زي ما كان سبب في قيام إمبراطورية قوية هناك، كانت سبب في ضغوط من الجانب العربي والغربي لمحاولات ضم وتحويل السكان لتابعين لهم.
كيف اعتنق الخزر اليهودية؟
لحد سنة ٧٤٠م، فجأة كده وبنصيحة من المهاجرين الجدد، وعشان يحجزوا مكان وسط الخناقة دي، أحد علماء المهاجرين يقال إن اسمه عبادي، بيقنع الملك الخزري بتغيير معتقده، والتحول اللي في أصله سياسي، على الرغم من إنه مش تبشيري بس بقى تبشيري لأجل المصلحة، عشان تتحول الدولة الخزرية في أيام قليلة إلى دولة ذات دين سماوي، واختاروا الاختيار الثالث، بتاع ولاد العم.
فجأة كده فيه دولة في النص هيا كمان كيان عقائدي، ملك وشعب، غيروا أساميهم عشان الظروف الجديدة وآمنوا، مع إنهم أتراك مش أحفاد الأسباط خالص، وبدو مرتحلين، وروس الهيئة والصفات الوراثية، لكنهم تحوّلوا فعلًا، غيروا العملة، حطوا الشعار، اللغة بتتغير، وبقت الإمبراطوريات تلاتة، وفعلًا أسسوا لدولة حكمت القُطر ده ٣ قرون.
الكلام ده بيبان في وثيقة تاريخية مهمة جدًا ترجع للقرن العاشر الميلادي، بين حاكم الخزر وبين أحد أطباء قرطبة، بيتكلم فيها الحاكم اللي اسمه “يوسف” عن إزاي جه لجدوده في الحلم واحد نصحه بتغيير المعتقد، وإنه هيكون سبب في رخاء وقوة، وإزاي المملكة دي بقت بالقوة الظاهرة دي حكمًا وشعبًا في الفترة دي من التاريخ.
اقرأ أيضاً: تاريخ الشعوب
انهيار مملكة الخزر
المهم المملكة توسعت، وحاربت يمين ويسار، وانتشرت، وشكلت قوة منسهاش مؤرخي العصر، بس زي أي مملكة بتصعد وتهبط، في القرن الـ١٣ ضعفت، وهاجمها المغول والروس، وقدر الروس إنهم يسيطروا على الأراضي دي ويحكموها، ويطردوا أهلها كلهم لأوروبا، فهاجر أهل البلد غربًا ناحية شرق أوروبا، ومنها لدول أوروبا زي ألمانيا وبولندا والنمسا وإنجلترا وفرنسا، عاشوا هناك واستقروا متفرقين مكونين كتل صغيرة مقفولة على نفسها، وهم اللي بعد كده كونوا الفصيل المعروف بالأشكينازيم، اللي بيشكل أكثرية النهاردة بنسبة ٩٠٪.
بيشرح كمان إزاي إنهم اشتغلوا في البنوك بعد كده، وسيطروا على الدهب والاقتصاد، اللي منهم عائلة روتشيلد والوعد المعروف، وكبرت الفكرة، ومع نشأة البنك الفيدرالي الأمريكي خاصة بعد الحرب، نقل الأغنياء ثرواتهم على هناك، عشان يكونوا الكتلة المتحكمة في العالم النهاردة، اقتصاديًا وسياسيًا.
الكلام ده بينهي أسطورة الأصل الواحد أو الشعب الواحد، بمعنى تاني الكلام بيشرح إنهم ملهومش أي حق تاريخي أو وراثي في المنطقة، وأنهم أتراك أصلًا، يعني بيحورولها من الآخر، وده بينفي القضية من أصلها، فطبيعي كانوا يعملوا أي حاجة عشان محدش يتكلم عن الفرضية دي ولا يدرسها.
إختلاق “الشعب اليهودي” متى وكيف؟
الكلام بيزيد عن الفكرة وإزاي نشأت، وبيتطرق كمان للـ١٠٪ الشرقيين، وزي ما السؤال ده كان ليه إجابة، المؤرخين العرب هم كمان تكلموا، ياقوت الحموي مثلا تكلم عن القبائل العربية في المدينة وغيرها وإزاي تغيروا، فتكلم عن إن في القرن الرابع الميلادي قبائل زي بنو قريظة وبنو النضير مع إنهم قبائل ليها أصل قبلي، بس تحوّلوا، يعني بردو مش أحفاد الأسباط، لا هم تحوّلوا باختيارهم الشخصي.
أما الفكرة نفسها، فتخيل اللي طرح نشأتها أصلًا واحد منهم، بروفيسور في الجامعة هناك اسمه “شلومو ساند”، في كتاب “متى وكيف اختلق الشعب”، بيقول كلام جميل جدًا، بيقول إن الفكرة نفسها مكنش حد بيتكلم عنها أو مكانتش موجودة، إنما تم اختلاقها، يعني لحد قبل القرن الـ١٨ محدش كان بيتكلم عن الحتة دي ولا يعرفوا عنها حاجة.
التحول الحقيقي كان من نشأة الفكرة دي عن طريق مثقفين عايشين في ألمانيا، تأثروا بفكرة الوطنية والهوية اللي نشأت هناك زي ما إحنا عارفين، وبدأوا يروجوا لها من بداية القرن الـ١٩ بس، فكرة وليدة يعني، روجوا فيها لكلمة شعب واحد، متأثرين بقصص قديمة وميثولوجيا، والناس صدقت، وكانت النهاية اللي إحنا بنعاني منه لحد النهاردة.
أصل يهود الخزر
يعني ببساطة، كل اللي موجودين دلوقتي دول من أصول تركية روسية، أو قبائل عربية الأصل، ملهومش رابط تاريخي بالمنطقة نهائي، إنما عملوا أسطورة ونشروها عشان تخدم فكرتهم لا أكثر ولا أقل، إنما تاريخيًا لا، هم من الخزر وشعوب تانية زي البلغار واليونان ويمنيين وفرس، يعني أساس الموضوع نفسه مش موجود، وكل الساسة منهم والمشاهير والزعماء ملهومش أي علاقة أونثروبولوجية أو تاريخية بالأرض، وإنها حقنا إحنا مش حق حد تاني.
فكان من الطبيعي إن مسودات الجغرافي جمال حمدان تختفي، اللي كان بيتكلم ويطرح فيها نشوء الفكرة، والأصول الأنثروبولوجية ليهم، وطبيعي كاتب بريطاني زي آرثر هو كمان يسكت، ويتهاجم، مع إنه منهم أصلا، بس كان لازم يسكت، والناس تنساه، وتنسى إمبراطورية الخزر، وتنسى أي فكرة ليها علاقة بالموضوع ده، عشان الكلام فيه حساس شوية، ومحدش عارف إيه اللي ممكن يحصل لو انتشرت والناس عرفتها.
مقالات ذات صلة:
كيف نشأ الكيان الإسرائيلي الصهيوني؟
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا