مقالات

الوعي وأزمة المصطلحات (مصطلحات خادعة)

لعل أسوأ المصطلحات التي وجدت طريقها إلى اللغة العربية في العصر الحديث هو مصطلح (الاستعمار)، وإنك لتعجب كيف يمكن لكلمة تحمل في طياتها معنى طلب العمار والنماء أن تستخدم لتصف واقعا مليئا بالانتهازية والجرائم والاستعباد وانتهاك الحقوق.

وللوهلة الأولى قد يبدو أمر مثل هذه المصطلحات وغيرها هينا لا يعدو كونه مشكلة ترجمة أو معضلة يختص بها علماء اللغة وأصحاب المجامع اللغوية، لكن السائر في طريق الإصلاح والساعي في دروب إنارة العقل وتوعية الفكر يدرك أن المشكلة أكبر من ذلك بكثير، وأن الاستمرار في تداول مثل هذه المصطلحات وغيرها عبر الأجيال دون تدبر أو تمحيص لهو خطر كبير يهدد فكر الأمة ووعيها ويقف حجر عثرة في طريق إصلاحها ورقيها.

ما وراء المصطلحات

إن تسمية الأشياء بغير مسمياتها الحقيقية ما هو إلا حيلة خبيثة يلجأ لها عادة المستبدون وأصحاب الأهواء والمصالح من أجل تجميل بعض فعالهم القبيحة في حق الإنسانية وإكسابها قبولا ورواجا لدى العامة، وما إن تتلقى الأجيال هذه المصطلحات وغيرها حتى يقر في وجدانها ويرسخ في أذهانها اعتقادات خاطئة وتصورات مخالفة لما كان وما يجب أن يكون عليه واقعها، كما إنه يؤثر على إدراكها لأحداث التاريخ وفهم مجريات العصر فهما صحيحا، بل وأحيانا قد يكون مردود ذلك سلبيا حتى على الفهم الصحيح للعقيدة وبعض متطلبات الشرع.

وبذلك يجد أصحاب الإصلاح أنفسهم يقضون جل أوقاتهم لا في تغيير الأفعال والسلوكيات فحسب بل في توضيح أن ما أطلق عليه نكسة كان في الحقيقة هزيمة، وما كانوا  يطلقون عليه إرهابا هو مقاومة مشروعة ضد المحتل، وما يسمونه سلاما هو في الحقيقة خيانة للقضية والأوطان، وما يعتبره البعض حرية رأي هو في بعض الأحيان إساءة لعرق أو وطن أو دين.

ثم يجد المصلح نفسه بعد ذلك في زحام من مصطلحات بعضها مطاطي كالحرية والوسطية والتطرف والاعتدال وغيرها، ومصطلحات أخرى ذات مفاهيم تتباين من شخص لآخر ومن جماعة لأخرى كمفهوم الأمة والوطنية والانتماء.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

أولى خطوات الإصلاح

وبالتالي فإن أولى خطوات الإصلاح هو أن تنبري ثلة من المتخصصين وأصحاب اللغة والفكر لتسليط الضوء على مثل هذه المصطلحات وقومستها وتوعية العامة بمخاطر تداولها دون إدراك لمدلولاتها وآثارها على فكر الأمة ووعي أجيالها، وإن تسمية الأفعال بمسمياتها الحقيقية لهو خير ضمانة لحفظ الحقوق وفضح بشاعة أفعال البعض وقبحها وإدانتها أمام الحاضر والتاريخ.

ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، فهو من غير أسماء كثير من الأشخاص والأماكن لقبحها وسوء مدلولها، فغير اسم يثرب إلى طيبة، وغير اسم عاصية إلى جميلة، وغير اسم أسود إلى أبيض، والعاص إلى مطيع، وما زال يفعل ذلك حتى أقام لأمة العرب حاضرا وحضارة باهت بها الأمم.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

اقرأ أيضا:

الاستعمار الفرنسي ومعركة الوعي في إفريقيا

التضليل والتلاعب بالمصطلحات

اللغة وسيلة للتعبير عن الحقائق أم إخفائها

د. عمرو أبو الحسن المنشد

مدرس أمراض الصدر كلية الطب – جامعة أسوان