حال الريف المصري في النصوص الروائية
حين يستبد الشوق بالريفيين الذين ابتلعتهم المدينة إلى أيامهم الأولى، أو تفارقهم العناية بالحفر وراء جذورهم البعيدة، فقد يجدون سلواهم في قراءة نص أدبي تكون القرية بطله أو مكانه الأثير.
وكل من هؤلاء المشتاقين يروق له نص يُذكِّره بما رآه في طفولته أو صباه، لا سيما أن ملامح الريف المصري تتغير بلا هوادة ليصير أقرب إلى كيانات حضرية مشوهة، فلا هو بالمدنية مكتملة المبنى والمعنى، ولا هو بالريف في سماته وقسماته.
قبل سنين كان هناك من بين الساردين المصريين من يلبي هذا الطلب مثل عبد الرحمن الشرقاوي في “الأرض”، ويوسف إدريس في أغلب أعماله الروائية والقصصية، ثم جاء يوسف القعيد وعبد الحكيم قاسم ومحمد البساطي وسعيد الكفراوي ويوسف أبو رية، وجعل هؤلاء الريف واحدا من الموضوعات والأماكن الأساسية التي انشغلت بها الرواية العربية.
أما في زماننا فقد استمر الريف حاضرا في كثير من النصوص الروائية، التي سأقدم هنا ثلاثة منها لنعرف كيف تعاملت مع ريف تمدين، ومدينة تريفت، ومناطق وسطى بين هذه وتلك.
رواية “باب الدنيا”
الرواية الأولى هي “باب الدنيا” لمحمد إبراهيم طه، وفيها حضر الريف بقوة من خلال ما يصيغه كاتبها من لغة متداولة، وعلاقات حميمة تقوم على “الوجه للوجه”، وشبكات من التفاعل الإنساني المتواصل، وتاريخ اجتماعي في إطار الأسرة والعائلة الممتدة والوحدة الاجتماعية المتمثلة في القرية كلها، يلقي بوطأة ثقيلة على الحاضر والمستقبل.
فاللغة انحازت إلى الشفاهي والمحكي في ترتيب الحوار وتدبيره، وإلى الكتابي المصنوع بعناية حين يبدأ الراوي في الحكي، وهو يصف الأماكن والبشر والمشاعر، ويسترجع ما جرى حين يكون الحنين إلى الماضي لازما، ويتنبأ بالمستقبل من خلال نفوس تتوق إلى اكتشاف ما يأتي.
ويمضي هذا الحكي وفق بنية دائرية، هي في الحقيقة أقرب لثلاث دوائر متداخلة توزعت على ثلاثة أقسام أخذت عناوين دالة هي: “حدود شفافة”، و”ظل البونسيانا”، و”طائران في عش”.
أبطال الرواية “إبراهيم جبر” و”فتح الله الشحات”
وبَنَت الرواية أنماطا من العلاقات الحميمة لا سيما بين بطليها، وهما أخان فرقت بينهما القابلة، إذ ولدتهما أم واحدة، لكنهما سجلا في الأوراق الرسمية باسمي رجلين مختلفين، وصارت لهما أمان أيضا، هما أختان، واحدة ولود والأخرى عاقر.
وظلت هذه الصلة البيولوجية والروحية والشعور الجارف بـ”المصير المشترك” يصبغ هذه العلاقة في صعودها المتواصل مع الزمن لتبلغ ذروتها حين يموت أحدهما “فتح الله الشحات”،
فيشعر الثاني “إبراهيم جبر” أن حياته قد توقفت وهو يجلس وحيدا فوق قبر أخيه، ويبدأ في استرجاع ما بينهما من روابط نفسية ومواقف إنسانية وعلاقات مادية، وقبل هذا ما ترتبه الواجبات والالتزامات بين ذوي القربى، أو المنتمين إلى أسرة صغيرة.
وكانت هذه الروابط دفينة إلى درجة أن الأخير لم يتحمل رحيل الأول فسقط في غيبوبة، اتخذ منها نقطة بداية حكايته التي تصنع هذه الرواية، حيث يقول: “كشخص جديد يرى العالم لأول مرة، لم أعرف من أين أتيت، ولا إلى أين أتجه؟”.
حكايات ذات صلة بأبطال الرواية
ومن هذين البطلين، بما يقولانه ويفعلانه ويريدانه، تتوالد الحكايات المربوطة بشخصيات أخرى، بعضها يكاد يتكرر في حياة الريفيين، وأخرى تجيئ مع انتقال “إبراهيم جبر” إلى المدينة،
مثل زميلة كلية الطب التي ارتبط بها عاطفيا وتزوجها، ويعول عليها أن تعوضه نفسيا عن رحيل أخيه، وأطباء المستشفى الذي عولج فيه “فتح الله” بعد أن أصيب بسرطان البنكرياس، ثم الانتقال إلى أماكن أخرى، لنجد ناظر المدرسة التي يعمل فيها الأخير،
وشيخ القبيلة الذي وفر له الحماية بعد أن فر إلى الصحراء هاربا من ديون تراكمت عليه إثر انخراطه في أعمال مقاولات كانت تستهويه، لكي يتمكن من أن يكون مهندسا حقيقيا لأن أباه أجبره على الالتحاق بمدرسة المعلمين.
وإذا كان “فتح الله” قد قدمه النص على أنه ذكي متصوف فيلسوف مغامر طموح، فقد جاء الأخ “إبراهيم” حذرا قانعا مضحيا جلدا ذا عاطفة جياشة، وهو طبيب تزوج من امرأة مضطربة نفسيا تسمى “أنوار”،
لا تقدر على القيام برعاية طفلتيهما “سالي” و”سوسن”، فيجد نفسه مضطرا إلى أن يكون أما وأبا لهما، ورغم هذا لا يريد أن يتخلى عنها مع سعيه لارتباط بأخرى اسمها “علياء” آملا أن تعوضه عما فقده من أخ وصاحب وحبيبة وزوجة.
مسار الرواية وبنيتها
وحين يقول فتح الله: “في ظل البونسيانا ترى الأمور المبعثرة مترابطة، والمعقدة بسيطة”، فكأنه يصف هذه الرواية في لغتها ومسارها وبنيتها، إذ نجد الحكايات فيها مبعثرة، بفعل التداعي الحر، الذي يذهب إلى الماضي ويأتي منه لينغمس في الحاضر وينهمك في تفاصيله دون إفراط،
لكن يظل هناك رابط قوي بين هذا المتناثر، يصنعه الراوي الممسك بأطراف الحكاية، والمتحكم فيها إلى حد بعيد، والمكان المركزي، والشخصيات القروية النمطية، لا سيما الولد الشقي الذي يمثله “العو”، والجدة التي تعوض نقص معرفة ابنها باستعراض ما ورثه من بيت فخيم وأرض ومصنع وتمثلها “شوق”،
ومن يقومون بتغسيل الموتى وتكفينهم وقراءة الأدعية على قبورهم بعد دفنهم ويمثلهم “جمعة أبو الجود”، والشاب الذي يكافح من أجل كسب قوته ويبني نفسه تدريجيا ويمثله “السعيد بن مكة”، وأشكال عديدة من علاقة الآباء بالأبناء، وأهل القرية بعضهم ببعض.
فهذه الشخصيات مألوفة في الروايات التي يكون الريف مكانها وموضوعها، لا سيما أن الظروف الاجتماعية والاقتصادية للقرى المصرية متشابهة إن لم تكن متطابقة.
أو أن القرية كوحدة اجتماعية يمكن أن نلمس فيها عن كثب هذه النماذج البشرية، ويستطيع أي كاتب قد عايشها سنوات أن يعرف عنها الكثير، بما يمكنه من أن يكتب حكاياتها منفصلة في قصص قصيرة، أو يوظفها في مسار سردي أطول وأعرض تصنعه رواية مثل التي نحن بصددها.
المقصود بالتعقيد البسيط للرواية
أما عن “التعقيد البسيط” فتجسده هذه الرواية بوضوح، إذ هي رغم صغر حجمها نسبيا (154 صفحة من القطع المتوسط)، وضيق موضوعها الذي تدور حوله، أو الفكرة المركزية التي تنسج على ضفافها خيوطها الفنية وتصورها الجمالي فإن الكاتب تمكن، عبر الغوص في نفوس الشخصيات، واستدعاء الماضي القريب، ووصف الأمكنة بعناية،
والبوح المتواصل الذي يأخذ أحيانا صورة الشكاية وأحيانا يبدو وكأنه نوع من الرثاء، من أن يمد الحكاية على اتساعها ليصنع رواية لافتة، سواء من حيث لغتها العذبة أو عمقها الإنساني أو قدرتها على جذب من يقرأها، ليس عبر حكاية مسلية إنما من خلال الحفر في الوجدان والتعويل عليه.
( ونكمل لاحقا إن شاء الله تعالى)
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا