مقالات

ما معيار الحقيقة؟ أم أن الآراء مفتوحة لكل من هب ودب؟

نظَرت لها نظرة حادة وقالت بتهكم: “جرى إيه يا ولية ياللي أرض بيتنا سقفكم؟!”، ولمن لا يستوعب الحقيقة في هذا الأسلوب الجدلي العنيف
في الشجار، هي تريد القول بأن ما تدوسه بقدميها يقع فوق رأس جارتها للدلالة على التحقير.

لم تدرك تلك الجارة البسيطة أثناء شجارها مع جارتها أنها تطرح إشكالية فلسفية طرحها قبلها سقراط منذ آلاف السنين، في محاوراته التي دونها تلميذه أفلاطون، ألا وهي نسبية الحقيقة، الحق نسبي.

هذا يعني أن كل إنسان يرى الحقيقة من منظوره هو وليس من منظور المطلق، فلا يوجد شيء اسمه حقيقة مطلقة، ما أراه صحيحا يراه غيري خاطئا ولا ضرر من ذلك.

هذه الطبقة الخرسانية في عمارتنا هي من منظوري أرضية ومن منظور جاري الذي يسكن في الطابق الأسفل سقف ونحن الإثنان على حق، هذا الشارع الطويل من منظور السيارة مسافة قصيرة يمكن سيرها في دقيقتين، ولكن من منظور المترجل على قدميه مسافة طويلة يتم اجتيازها في عشرين دقيقة على الأقل.

هل الفلسفة في الحقيقة مطلقة أم نسبية؟

على عكس الشائع في الفكر الغربي، فإن المنهج العقلي لطالما نظر إلى الفلسفة أنها نتاج فكري واضح المعالم، وهو ما لا يتفق مع الحضارة المادية التي تلصق بالفلسفة كل ما هو نتاج فكري!

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فالفلسفة حسب التعريفات الغربية هي أقرب إلى التجربة الشخصية والمنظور المتفرد للمفكر. فلا فارق بين السفسطة والفكر المنطقي السليم في الفلسفة الغربية، التي تنظر لكل الأفكار كإجابات مختلفة لنفس السؤال.

بينما على الجانب العقلاني تجد المنطق وقوانين التفكير العقلية هو السبيل الوحيد والأهم للتفرقة بين ما هو سفسطة أو محض فرضيات ونظريات وبين ما هو فلسفة مستدل عليها.

ولعل ما يفصل بين الفلسفة العقلية والفلسفة الغربية ليست فقط نظرة كلٍ منهما إلى الفلسفة، وإنما النظر إلى طريقهما والسبيل إلى تكوين تلك الفلسفة.

ففي حين تنتهج الفلسفة العقلية طريق التفكير المنطقي البرهاني، والاستدلال العقلي المعياري، فإن الفلسفة الغربية لم تنتهج طريقًا واحدًا.

كان لكل مفكر غربي طريقه الخاص، ومبناه الفكري الخاص، دون آليات واضحة للرد والتفنيد، مما أدى إلى غياب المنهجية بشكل واضح بين مفكري الغرب.

بعكس ما تميزت به الفلسفة العقلية، فكان كل فيلسوف مكملًا لمن سبقه في طريق البناء المعرفي الإنساني.

معيار الحقيقة

هل الحقيقة في الفلسفة مطلقة أم نسبية

المعيار الفكري أساسه البديهيات العقلية، وهي الأفكار التي يقول الإنسان يقينا بصحتها دون الحاجة إلى دليل على إثباتها.

فكما يُقال “هذا أمر بديهي” أي أمر يقيني لا حاجة إلى دليل لإثباته، فهذه الأفكار فطرية في عقل الإنسان يعرفها بالبداهة، يعني أيضًا “التصميم البشري نازل كده”، مثل استحالة اجتماع النقيضين، فمُحال أكون في القاهرة والإسكندرية في نفس الوقت مثلا.

ولكل معلول علة، فتلك الأموال التي في حافظة نقودي حتما شخص أعطاني إياها، إما مصروف من والدي، أو راتبي من عملي، أو جائزة فزت بها، أو وجدتها في الشارع ملقاة على الأرض، فالأكيد هناك علة جعلت تلك النقود معي، فهي لم تأتِ من العدم.

وغيرها من البديهيات التي هي أساس أي طرح فكري، مثل الكل أكبر من جزئه، واستحالة تسلسل العلل؛ لا بد من وجود علة أولى، واستحالة الدور، واستحالة الترجيح دون مرجح.

أي باحث لو لم يكن متيقنا أنّ لكل نتيجة سببا لن يدخل المعمل، هو داخل ليجرب ويبحث ويضع هذا مكان هذا في كل مرة يغير فيها الأسباب. وهو ينتظر نتيجة لإيمانه الفطري بأن لكل نتيجة سببا.

لو كان الجسم ساكنا مُحال أن يكون متحركا، لو أن الموجود نبات مُحال أن يكون حشرة، لو المعدن لا فلز مُحال أن يكون فلزا، لو كان ما أمامه حامضا مُحال أن يكون قلويا، هو داخل معمله مؤمنا باستحالة اجتماع النقيضين.

اقرأ أيضا:

الأشباح توجد بيننا !

الأسطورة

كرة القدم أم كرة العقل

هل الحقيقة ثابتة أم متغيرة؟

أي قضية وأي موضوع في حياتنا له معيار نحكم به، بمعنى: له وحدة قياس ضابطة له، حتما سيستعين الزوجان بالترمومتر لقياس حرارة ابنهم، وسيستعين السائق وزبونه بالكيلومتر لقياس المسافة،

وحتما انتصرت مدرسة سقراط، بتدوين المنطق على يد تلميذ تلميذه أرسطو، لتكون قواعد تمثل المعيار الثابت للوصول إلى الحقيقة المطلقة في زمن كان كل شخص يُنظّر لرأيه على أنه الحقيقة.

بالتأكيد السقف بالنسبة لمن في الطابق الأسفل هو سقف ومُحال يكون غير ذلك، وبالمثل لمن في الطابق الأعلى هي أرض ومُحال تكون غير ذلك.

وهذه حقيقة مطلقة تحتاج إلى نظرة شمولية للمعيار المتمثل في المكان، فالحقيقة هي ما تتوافق مع معيارها وليس مع هوى النفس.

إذًا دعونا نتفق أن لكل قضية معيارا، وأن الحقيقة متجاوزة لوجهات نظر الإنسان وهوى نفسه، وأنها غير محكومة إلا بمعيارها.

رد القضايا إلى معيارها الأصلي

هل الحقيقة في الفلسفة مطلقة أم نسبيةحسنا، ما أوجه التشابه بين المواقف التالية، القائلون من أهل الدين بأن الكيمياء وهم وعلم لا فائدة منه، والمعارضون من أهل البشرة البيضاء على إلغاء العبودية في أمريكا لتأثير ذلك على مصالحهم، والباحثون من أهل الطب حول الفوائد الصحية لتناول الخمور مقللين من مدى ضررها الجسدي شرط عدم الإسراف في تناولها؟

القاسم المشترك في المواقف السابقة هو عدم الحكم على تلك القضايا بمعايرها واستخدام معايير غير مناسبة لها في الحكم.

إن كانت الكيمياء علم مادي، فالحكم على فائدتها في نواحي الحياة يكون بمعيار التجربة العلمية وليس الدين، ربما الرؤية الدينية تقول كيفية توظيف الكيمياء بشكل يساعد الإنسان على كماله المادي والمعنوي، ولكنها بالتأكيد لا تحكم على كون التفاعلات الكيميائية وهم وسحر.

إن كانت العبودية قضية أخلاقية فالحكم يكون بمعيار الفطرة الإنسانية، حيث الحسن والقبح العقلي وليس بمعيار المنفعة المادية، فاستخدام المعيار المادي في مثل تلك القضايا الأخلاقية أمر انتهازي نفعي غير أخلاقي.

وبالمثل فالقضايا المتعلقة بالأوامر والنواهي الشرعية كشرب الخمر تقاس بمعيار الدين وليس بمعيار آخر.

إذًا هناك حتمية من رد كل قضية إلى معيارها للوصول إلى حكم صحيح، أي إلى الحقيقة، فاستخدام معيار غير مناسب يؤدي إلى تصور خاطئ وبالتبعية يؤدي إلى حكم خاطئ.

هل الأخلاق مطلقة أم نسبية؟

الفلاسفة العقلانيون يردّون المعيار الأخلاقي إلى نوعين، الفطرة الإنسانية كمعيار للأخلاق العامة، وهي الأمور التي تلاقي إجماعًا عند كل البشر بحكم فطرتهم، كاستحسان العدل وقبح الظلم ورفض الكذب وحفظ الأمانة وكره الخيانة، وغيرها من الأمور التي يتم الحكم عليها بالحسن والقبح العقلي، “التصميم البشري نازل كده”.

والنوع الثاني هو الدين حيث هناك أمور تفصيلية جزئية يعجز العقل الإنساني عن الإتيان بحكم موحد فيها، وهي تدخل في حيز الأوامر والنواهي الإلهية، مثل غض البصر من عدمه، حجاب المرأة، حدود العلاقة بين الرجل والمرأة، الشذوذ الجنسي، التعامل بالربا، مدى حرية الفرد.

وإذا نظرنا إلى طبيعة الفطرة الإنسانية وطبيعة الأوامر والنواهي الإلهية نجدها ثابتة لا تتغير ولا تتجزأ، فكما يقال “المبادئ لا تتجزأ”، وبالتالي فالأخلاق ثابتة مطلقة وليست نسبية.

**********

لقراءة المزيد من المقالات يرجى زيارة هذا الرابط

ندعوكم لزيارة قناة الأكاديمية على اليوتيوب