عادة ما يكون الحديث عن الفلسفة والمذاهب الفلسفية حديثا مملا بالنسبة لكثيرين فهي ليست من العلوم المحببة عند أغلب الناس وليست هذه السطور داعية إلى حب الفلسفة والتفلسف بل هي محاولة للوقوف على أرض صلبة في موضوع اخترت التحدث عنه اليوم وهو موضوع أخلاقي بالأساس… على أي حال ما علاقة الفلسفة بالأخلاق؟!…
مباحث الفلسفة الرئيسية
إن الفلسفة هي علم من الصعب إعطاء تعريف جامع مانع له ذلك لكثرة مباحث الفلسفة وهي ثلاثة رئيسية: مبحث الوجود ومبحث المعرفة ومبحث القيم.
ومبحث الوجود يجيب على الأسئلة المتعلقة بهذا الوجود كيف هو موجود ولماذا.. فمثلا هل لهذا الكون الفسيح إله أم لا؟ ما هو الإنسان؟ ما هو الحيوان؟ كل هذه أسئلة يبحث فيها مبحث الوجود ولسنا بصدد الحديث عنه الآن.
نأتي الآن إلى المبحث الثاني وهو مبحث المعرفة وهو المبحث الذي يهتم بالإجابة على سؤال مهم جدا وهو سؤال كيفية المعرفة الإنسانية.. هل الإنسان قادر على المعرفة؟! كيف يعرف؟! ما هي حدود معرفة عقل الإنسان؟!
كل هذا وأكثر يتناوله هذا المبحث بشيء من التفصيل والإسهاب والمسألة ليست بتلكم السهولة يا صديقي فهذا السؤال ” كيفية المعرفة ” قد أثار الجدل الكبير في تاريخ الفلسفة القديمة والحديثة وحتى اليوم ما زلنا نسأل هذا السؤال المهم..
وعلى مر العصور كان هناك أربعة مناهج أو أساليب أو أدوات استخدمها الإنسان للإجابة على هذا السؤال والأربعة هم: العقل والتجربة والنص الإلهي والإشراق.. دعونا نتحدث عن المنهجين العقلي والتجريبي نظرا لطول الجدل بينهما ونظرا لأهمية تناولهما لعلم الأخلاق وهو مبحثنا الرئيسي ومقصدنا النهائي من هذه السطور.
ما هو المنهج العقلي؟
ما أقصده بالمنهج العقلي هو المنهج الذي يعرف الإنسان على أنه حيوان ناطق.. حيوان بمعنى أنه متحرك بالإرادة وناطق بمعنى مفكر إذن هو يعرف الإنسان على أنه حيوان مفكر يستطيع هذا الإنسان باستخدام عقله أن يستدل ويعرف العالم حوله فيعرف العلوم الطبيعية مثل الفيزياء والكيمياء ويعرف العلوم ما وراء الطبيعية مثل الميتافيزيقا أو ما وراء الطبيعة
وظل هذا المذهب يتحكم في تاريخ الفلسفة القديمة حتى أتى فرانسيس بيكون مؤسس المنهج التجريبي الذي قال بأن الإنسان لا يستطيع أن يتجاوز التجربة الحسية في معرفته
وقد قال جون لوك في كتابه مبحث في العلم الإنساني إن الإنساني يولد وعقله كالصفحة البيضاء وتأتي التجربة لتنقش عليه وتتحول هذه النقوش إلى خبرة الإنسان ومعرفته ولوك مثله مثل بيكون يختصر أو يقول بعدم قدرة الإنسان على التعاطي مع ما يتخطى الطبيعية
ولسنا هنا في صدد الرد وإنصاف أي من المنهجين في القضية المعرفية فكما قلت في البداية ما نصبوا إليه من هذه السطور هو الوصول إلى المبحث الثالث مبحث القيم أو الأخلاق في ضوء المنهج التجريبي ورؤية إذا ما كان هذا النسق في التفكير قد يؤدي إلى أحكام أخلاقية صحيحة أم لا.
مبحث القيم
نأتي الآن إلى المبحث الثالث من المباحث الفلسفية وهو مبحث القيم ولا شك أن هذا المبحث يهم القارئ كثيرا لأنه يتعلق علاقة مباشرة بتصرفاتنا اليومية فهذا المبحث يجيب على الأسئلة المتعلقة بعلم الأخلاق ويتساءل ما الحق ما الخير وما الجمال؟!
وفي الحقيقة أن المباحث الثلاثة لا غنى لهم عن بعضهم البعض أبدا بل إنهم يعتمدون على بعضهم البعض في الإجابة على الأسئلة التي يطرحها كل مبحث فالذي يعرف وجود الإنسان بكونه حيوان ناطق عاقل
وعقله يستطيع أن يتعامل ويتعاطى مع القضايا الميتافيزيقية يخرج بنظرية مختلفة في المعرفة تفضي إلى أن الإنسان معرفته تتجاوز نطاق الطبيعة وبالتالي إجابته على سؤال القيم ستحمل في طياتها قيما أعلى من المادة والطبيعة كالعدل والحب والحرية وهكذا..
الفلسفة المادية التجريبية
أما الذي يعرف الإنسان بكونه إنسان عاقل أيضا لكن عقله لا يستطيع الولوج إلى ما بعد الطبيعة سيخرج بنتيجة معرفية مختلفة حتما فيقول إن حدود معرفة الإنسان مقصورة في التجربة ولا سبيل للمعرفة غير ذلك
وبالتالي قد لا تلعب الأديان السماوية دورا كبيرا في حياه الفلسفة المادية التجريبية بصفتها مصدر معرفي متجاوز لحدود التجربة والعالم المادي على عكس صاحب المنهج العقلي الذي يقبل الأديان ويكون له دور في تشكيل نمط حياته.
إن الدارس لتاريخ الفلسفة الغربية سيعلم بالتأكيد أن العقل الغربي لم يتخلص من عهد الظلام أو ما عرف بالقرون الوسطى الذي فقد البراءة وفقد الإنسانية وحاكم كل مخالفيه باسم الرب.. لم يتخلص من هذا الحكم المقيت إلا بالعقل..
ولكن أي عقل هل كان عقلا بالمعنى المتجاوز للطبيعة أو الواقف عند حدودها.. في الحقيقة إن الفلسفة الغربية فيها من هذا وذاك ولكن كانت الغلبة في الأخير للعقل التجريبي الحسي الذي وقف عند حدود التجربة الحسية معتبرا أنها نهاية المطاف.
نظرة المنهج التجريبي للأخلاق
نعود الآن إلى سؤال ما هي الأخلاق.. لو نظرنا إلى هذا السؤال بنظره المنهج التجريبي الحسي المادي سنرى أن إجابة هذا السؤال تنوعت في نسق الحضارة الغربية وإن ثبت الأصل فيها وهو المادة..
فمن نفعية توماس هوبس الخاصة الذي قال بأن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، وإن الإنسان عليه أن يسعى إلى مصلحته ومنفعته وفقط دون أي اعتبار لقيم بعيدة عن نطاق المادة..
إلى نفعية بنتام العامة والتي كانت أكثر تهذيبا وقالت بمنفعة الإنسان في النطاق الاجتماعي إلى برجماتية ويليام جيمس حتى نصل إلى مذهب إرادة القوة إلى النسبية التامة وانهيار القيم الأخلاقية في الفلسفة الحديثة المعروفة بفلسفة ما بعد الحداثة
ونحن هنا لسنا بصدد الحديث عن كل مذهب تفصيلا ولكن ما يهمنا من هذه السطور أن نستنتج شيئا.
فشل طريقة التجربة والخطأ
إن نسق فلسفة الأخلاق الغربية اعتمد على المنطق التجريبي اعتمادا كاملا فنحن لو نظرنا إلى التاريخ لوجدنا أن الفلسفة الغربية في نسقها تعتمد طريقة التجربة والخطأ العلمية
وذلك لأن الإنسان الغربي منذ البداية قد ضيق واسعا وقلص حظوظ الإنسان من المعرفة إلى المعرفة العلمية التجريبية وفقط لذلك نحن نرى أن الغربيين قد أدركوا شيئا ولم يدركوا أشياء،
وهذا النسق من التفكير على الرغم من أنه قدم في الأخير بعض النفحات الممتازة في مجال حقوق الإنسان مثلا إلا أن هذا النسق من الصعب تبنيه والالتزام به طوال التاريخ طريقة التجربة والخطأ تاريخيا لم تكن دائما فعالة بل كانت في أغلب الأوقات مدمرة.
مأساة النظرة المادية للقيم
سيظل هذا النسق الغربي في التعامل مع القيم الإنسانية به خلل وإخضاع الأخلاق للتجريبية أغرقنا وأدخلنا في حالة السيولة فقد قال الفيلسوف المصري عبد الوهاب المسيري
“أن مصطلح الأسرة مثلا هنا في الشرق له انطباعات معينة أب وأم وأبناء هكذا هي العائلة أما في الغرب فقد أصبح المصطلح ليس له معنى هل الأسرة تعني رجلا وامرأة وأبناء أو امرأة وامرأة أو رجلا ورجلا أم رجلا وابنته وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية”
ما يجربه الغرب اليوم سيفشل غدا وسيأتي بعده من يطلعنا على تفاصيل تجربة أخرى وهكذا إلى ما لا نهاية.. إن الإنسان الذي قلص سبل المعرفة لن يعرف الإجابات التامة عن الأسئلة في الأخير..
نحتاج إلى منهج أكثر دقة في التعامل مع القضايا الأخلاقية. نحتاج إلى أسلوب في المعرفة يسهل علينا معرفة الحق والخير والجمال.. نحتاج إلى أسلوب يخرجنا من دوامة التجربة المجحفة.
اقرأ ايضاً:
تأملات في مسلسل ذئاب الجبل – هل يقدم قيمة ؟
القيم الضائعة هى الرصاصة الأشد فتكاً
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا