العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الثاني والستون

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة، (ج 61) عن إخوان الصفا: وكتابهم “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم [15]: ميتافيزيقا الجغرافيا: فلسفة للجغرافيا الحضارية.

ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ: إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”.

التطور: من أناكسيماندروس وإمبيدوكليس إلى إخوان الصفا

إن إخوان الصفا مثلٌ فذٌ في الاطلاع على ثقافات البشر كلها ومنجزات الإنسان في كل زمان ومكان، وبصرف النظر عن عقيدة ذلك الإنسان أو قوميته. ولا شك في أنهم اطلعوا على تراث اليونان، وكانوا تتويجًا لحالةِ الثقافة والعلم في تياراتهما المختلفة في أيامهم، تلك التي أتاحتها دولةُ بني العباس الذين بدأوا حركةَ ترجمةٍ واسعة شملتْ ترجمةَ منجزات شتى الحضارات ومن بينها الحضارة اليونانية.

وقد تناولتُ نظريات التطور عند فلاسفة اليونان الأوائل: أناكسيماندروس وإكسينوفانيس، وإمبيدوكليس، بالتفصيل. ولك –صديقي القارئ صديقتي القارئة– أن تعود إلى كتبي: “د. شرف الدين عبد الحميد، أناكسيماندروس: لاهوت اللا نهائي، مع نص شذرات أناكسيماندروس باليونانية”، و”إكسينوفانيس: اللاهوت الفلسفي، مع نص شذرات إكسينوفانيس باليونانية”، و” إمبيدوكليس: لا هوت الجذور، مع نص شذرات إمبيدوكليس باليونانية”، في هذه الكتب سوف تطلع على نظريات التطور عند فلاسفة اليونان الأوائل بتفصيل لا يسمح المقام بذكره هنا ولو مختصرًا.

وقد أضاف إخوان الصفا إلى ما ورثوه من فلاسفة اليونان وغيرهم كثيرًا من عبقريتهم الخاصة، فلم يكونوا –كشأن فلاسفة الإسلام كلهم الذين تحدثنا عنهم في هذه السلسلة من الدردشات– مقلدةَ يونان، بل كانوا مبدعين أضافوا إلى تراث الإنسانية ووضعوا بصمتهم الشخصية عليه، ووسموه بميسم عبقريتهم الإسلامية.

التطور: إخوان الصفا أول من تكلم فيه من العرب المسلمين

إن أول من تكلم في التطور من العرب المسلمين هم إخوان الصفا، وتكلموا فيه في أول عصور المدنية العربية –على حد تعبير إسماعيل مظهر أول مترجم عربي لكتاب تشارلز داروين “أصل الأنواع”– بأسلوب علمي بينوا فيه كثيرًا من المبادئ التي تعد الآن من الدعامات الأولية في مذهب النشوء عامة. لكن لم يستخدم إخوان الصفا كلمة التطور بهذا الاسم صراحة، وإنما أول من سيصرح بهذا المصطلح باسمه “التطور” –من بعدهم– العلاَّمة البيروني.

التطور: ترتيب الكائنات كترتيب العدد عن الواحد

إن نظرية التطور عند إخوان الصفا ليست سوى استكمال لنظريتهم الرياضية إلى الوجود التي تحدثنا عنها من قبل (راجع ج51)، وفي ذلك يقول إخوان الصفا:

“فإن أول مرتبة النبات متصلةٌ بأول مرتبة الحيوان، فنريدُ أن نذكرَ في هذه الرسالة أيضًا (وهي الرسالة الثانية والعشرون من رسائل إخوان الصفا) طرفًا من كيفية تكون الحيوانات وبدء كونها ونشوئها ونمائها وكمية أجناسها وفنون أنواعها وخواص طباعها واختلاف أخلاقها، ونبين أيضًا أن آخر مرتبة الحيوان متصلٌ بأول مرتبة الإنسان، وآخر مرتبة الإنسان متصلٌ بأول مرتبة الملائكة، ليكن في ذلك بيانٌ ودليلٌ لمن كان له قلبٌ صافٍ ونفسٌ زكيةٌ على كيفية ترتيب الموجودات، ونظام الكائنات عن علةٍ واحدةٍ ومبدأٍ واحد، وأنها كترتيب العدد عن الواحد الذي قبل الاثنين”.

“واعلم يا أخي بأن أول مرتبة الحيوان متصلٌ بآخر مرتبة النبات، وآخر مرتبة الحيوان مُتصلٌ بأول مرتبة الإنسان، كما أن أول المرتبة النباتية متصلٌ بآخر المرتبة المعدنية، وأول المرتبة المعدنية متصلٌ بالتراب والماء”.

خلاصة تأويلية:

هذه كانت مقدمة عن علة التطور ومبدئه عند إخوان الصفا، الذين قدموا –ربما لأول مرة في العالم الإسلامي– فلسفةَ وجودٍ تطورية، لكل ما تحت فلك القمر، استكمالًا لرؤيتهم الرياضية إلى الوجود: الله والإنسان والعالم. العدد، والهندسة والفلك، والموسيقى، والجغرافيا، والتطور، الذي تعرفنا –في هذه الدردشة– على أس مبادئه ومقدماته وهو: “كيفية ترتيب الموجودات، ونظام الكائنات عن علةٍ واحدةٍ ومبدأٍ واحد، وأنها كترتيب العدد عن الواحد الذي قبل الاثنين”.

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع إخوان الصفا وكتابهم: “رسائل إخوان الصفا”: ميتافيزيقا العلوم: التطورُ الموجَّهُ بالحكمةِ الإلهية (2): تراتب الموجودات من التراب والماء إلى المعادن والنبات.

مقالات ذات صلة:

الجزء الثامن والخمسون من المقال

الجزء التاسع والخمسون من المقال

الجزء الستون من المقال

الجزء الواحد والستون من المقال

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا