البلهاء الثلاثة، ملامح لسينما هندية جديدة
كنت منحازًا للسينما الهندية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، فترة الصبا والشباب، إذ كان للأفلام الهندية حضور قوي في دور العرض المصرية وفي التليفزيون المصري، بخاصة في الأعياد والمناسبات، وعلى الرغم من الانتقادات الكبيرة التي كانت توجه لهذه الأفلام من النقاد فقد كانت تتمتع بشعبية كبيرة لدى الجمهور. كان من أسباب انتشار هذه السينما الخلطة التجارية المعروفة التي كانت تميزها من أكشن وميلودراما وأغانٍ واستعراضات.
غير أن المأخذ الكبير الذي أخذه النقاد المتخصصون والجمهور العام على السواء، على هذه الأفلام، كان القصة من ناحية والمبالغة في معالجتها من ناحية أخرى. فلم تكن تخرج القصة عن تيمة الإخوة الذين يتفرقون في بداية الفيلم ثم يلتقون في نهايته عبر سلسلة من المواقف الميلودرامية المبالغ فيها، الأمر الذي أدى إلى أن ترتبط كلمة “هندي” بانعدام المنطق والواقعية.
لكن الأمر اختلف في الألفية الثالثة، فظهر نجوم جدد وموضوعات جديدة، ورؤى سينمائية مختلفة، وإن تأثرت بالسينما الهوليوودية في بعض الأحيان، استفادت من التقنيات الحديثة في تنفيذ مشاهد الحركة والإيقاع السريع للاستعراضات. لكن الملاحظ أن السينما الهندية الحديثة فقدت شيئًا من سحرها، واحتفظت –في الوقت نفسه– بشيء من روحها، فكيف تحقق ذلك؟ أو بعبارة أخرى، إلى أي مدى تطورت هذه السينما؟ وإلى أي مدى ظلت محتفظة بسماتها التقليدية القديمة التي كانت سببًا في نجاحها الجماهيري؟
يمكن الإجابة عن هذا التساؤل من الفيلم الهندي المميز “البلهاء الثلاثة” الذي أنتج عام ٢٠٠٩ وأخرجه راجكومار هيراني، وقام ببطولته عامر خان، شرمان جوشي، آر. مادهافان، بومان إيراني، كارينا كابور، أومي فايديا، والقصة مأخوذة عن رواية “خمس نقاط لشخص ما” للمؤلف تشيتان بهجت، وقد حقق الفيلم إيرادات كبيرة في شباك التذاكر، وحصل على عديد من الجوائز.
القصة بسيطة، لكنها جديدة على السينما الهندية، فهي تدور بخصوص ثلاثة من الأصدقاء يدرسون في الكلية الهندسية الملكية بنيوديلهي، رانشو (عامر خان) المحب للمعرفة، وراجو (شرمان جوشي) الذي يدرس بدافع الخوف من الفقر، وفرحان (آر. مادهافان) الذي يهوى تصوير الحيوانات البرية ويدرس الهندسة تنفيذًا لرغبة والده.
الفيلم يعد بمقام النقد لنظام التعليم في الهند، إلا أن السيناريو نجح في أن يجعل المشكلة لا تخص الهند وحدها، لكن كل نظام تعليمي تقليدي يعتمد على التلقين والحفظ، ويجعل من الدرجات معيارًا للنجاح.
يقدم الفيلم فكرته من الصراع بين رانشو ومدير الكلية الملقب بفيروس (بومان إيراني) من ناحية وبين رانشو والطالب تشاتور (أومي فايديا) الملتزم بالنظام التعليمي التقليدي من ناحية أخرى. ويرسم السيناريو أحداث الفيلم بحبكة ذكية ومشوقة تعتمد على اتفاق بين تشاتور وبين رانشو بحيث يلتقيان بعد عشر سنوات كي يرى كل واحد منهما إلى أين وصل الآخر.
الفيلم يتسم بالطابع الكوميدي الرومانسي الخفيف، ولا يعتمد على الإيماءة أو الإفيه، كما هو الحال في السينما المصرية، بقدر اعتماده على كوميديا الموقف التي يفرد لها السيناريو مساحة كبيرة، بحيث نجد لكل موقف بناء دراميًا خاصًا به يدفع إلى الضحك في أثناء الموقف وبعده الذي يشبه النكتة الطويلة، وهي واحدة من السمات التي كان تميز السينما الهندية التقليدية، وضح ذلك منذ المشهد الاستهلالي للفيلم وحتى مشهد النهاية. جاء الخط الرومانسي، بين رانشو وابنة مدير الكلية (كارينا كابور) مفتقرًا للعمق الكافي إذ صار جزءًا مكملًا وداعمًا للخط الكوميدي الذي غلب على معظم المشاهد.
على مستوى القصة قدم السيناريو، على لسان رانشو، مجموعة من المشاهد المحبوكة بمهارة، التي تشكل بمحتواها التربوي والتعليمي مدونة أخلاقية جديدة تجاوز التقاليد الجامدة التي تربى عليها الآباء والأجداد، لعل أهمها التخلي عن المصطلحات العلمية المعقدة والاتجاه إلى المفاهيم البسيطة المستمدة من الممارسة العملية للحياة اليومية، الابتعاد عن روح المنافسة في التحصيل العلمي والاقتراب من حب المعرفة لذاتها، حرية اختيار الطالب للطريق الذي يرغب في المضي فيه، وهنا ينبغي أن ينصت إلى الصوت القادم من الأعماق لا المفروض عليه من الخارج، ولعل الدرس الأعمق الذي لفت إليه رانشو بعد تعدد حالات انتحار الطلبة بالكلية، أن ضغوط الدراسة والامتحانات لم تكن هي سبب موتهم، لكن ضغوط المجتمع، بتقاليده البالية، هي التي تسببت في قتلهم.
احتفظ الفيلم بزمن العرض الطويل، كعهد السينما التقليدية، فاستغرقت الأحداث على الشاشة ما يقرب من الثلاث ساعات، لكنه اختلف عن الأفلام القديمة في سرعة الإيقاع والقدرة على جعل المشاهد مشدودًا طوال العرض دون أن يشعر بالملل. فقد كان هناك اقتصاد في الحوار وفي الأغاني والاستعراضات، التي كانت تميز السينما التقليدية، وربما لهذا السبب افتقد الفيلم لشيء من سحر السينما الهندية القديمة.
المفارقة أن الفيلم كان يحمل شيئًا من التهكم على السينما الميلودرامية القديمة، التي كانت تصور الحياة البائسة للطبقات الفقيرة في المجتمع، عندما كان يقدم المشاهد المتعلقة بأسرة راجو الفقيرة بالأبيض والأسود، وهي معالجة بصرية ذكية تمثل نقدًا للفن وللمجتمع على السواء، كما أنها تقدم درسًا بارعًا في استخدام الإضاءة من أجل تفجير الكوميديا.
كما انتقد الفيلم الطبقات الفقيرة التي تتحدث بالأرقام من فرط فقرها، فقد انتقد الطبقات الغنية التي تتحدث بالأرقام أيضًا من فرط غناها، فالجميع –الغني والفقير– يقيم الأشياء بالأرقام ويخشى من ضياعها أو إتلافها كلما كانت قيمتها النقدية أكبر. وهو درس آخر مهم كان يقدمه رانشو عندما كان يسخر من كلتا الطبقتين اللتين تقيمان العطاء بالأرقام الحسابية المادية، وكان يضرب بتصرفاته أروع الأمثلة على العطاء المعنوي والروحي عندما كان يستخدم ذكاءه في مساعدة الآخرين دون مقابل.
برع معظم الممثلين في الأداء الذي جاء سهلًا ممتنعًا بخاصة من النجم عامر خان صاحب الوجه المعبر والابتسامة الساحرة، خلافًا للأداء المسرحي الانفعالي الذي كان يطغى على السينما التقليدية، غير أن المسحة الميلودرامية ما زالت تشوب الأداء في بعض المواقف، مثلما حدث في مشهد محاولة انتحار راجو عندما وضعه مدير الكلية في اختيار صعب، إما أن يخون أصدقاءه أو يتخلى عن أحلام عائلته الفقيرة.
كذلك احتفظ الفيلم بأجواء الترقب والحركة مع تصاعد الأحداث قرب نهاية الفيلم، كما كان يحدث في السينما الهندية طوال تاريخها، ولم تفارق المبالغة هذه الأحداث رغم محاولة صبغها بالصبغة العلمية، كأن يستطيع رانشو أن يقوم بإجراء عملية ولادة في أجواء ليلية مظلمة وممطرة باستخدام مكنسة كهربائية! كما ينجح في أن يبث الحياة في الطفل الوليد الذي توقف عن الحركة فور ولادته بأن يردد على مسامعه عبارة “كل شيء على ما يرام” التي كان يتحرك على أثرها في بطن الأم كلما رددها أحدهم في الخارج!
لم يكن عنوان الفيلم معبرًا عن الأحداث، لأن أبطال الفيلم الثلاثة الذي يشير إليهم العنوان ليسوا بلهاء، لكنهم كانوا يعانون من مشكلات اجتماعية وتربوية دفعتهم لأن يواجهوا عالمهم الظالم بالسخرية، ليس هذا فقط بل إن رانشو كان الأكثر ذكاء في الكلية وأول الدفعة، ولأنه اختفى عن أصدقائه بعد التخرج، وظلوا يبحثون عنه طويلًا إلى أن عثروا عليه في نهاية الفيلم، فربما كان العنوان الأنسب “رحلة البحث عن رانشو”.
في كل الأحوال، فيلم “البلهاء الثلاثة” ممتع ومسلي ويحمل رسالة تربوية وأخلاقية واضحة، وقبل هذا وذاك يلفت النظر إلى أن السينما الهندية في السنوات الأخيرة بدأت تجدد نفسها، وتخوض تحديًا كبيرًا بأفلام تحاول أن تمزج بين روح العصر من ناحية وسحر الهند القديم من ناحية أخرى!
اقرأ أيضاً:
الفيلم المصري بين السرقة والتزييف
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا