العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الرابع والأربعون
المدرسة المشَّائية: (42) ابن رشد وكتبه: "فصل المقال"، "مناهج الأدلة"، "تهافت التهافت"
الفلسفة والتأويل (10): جدل الظاهر والمؤول
تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 43) جدل الظاهر والمؤول (9): ثالثًا: قوانين التأويل وقواعده الرئيسة: [ب] أصناف الناس إزاء التأويل: جمهور وجدليون وعلماء. [ج] طرق الشرع في التصديق. [د] لا ينبغي التصريح بالتأويل للجمهور. [ه] قاعدة عامة في التأويل: الخواص والعوام.
ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ لفلسفة التأويل الرشدية: جدل الظاهر والمؤول.
[و] أخلاقيات التأويل
وضع ابن رشد مجموعةً من القواعد المتعلقة بأخلاقيات التأويل نذكر منها:
1. التأويل أمانة
إن أولى أخلاقيات التأويل عند ابن رشد: أن التأويل أمانة، وفي ذلك يقول: “فقد تبين لك من هذا أنه ليس يجب أن تثبت التأويلات الصحيحة في الكتب الجمهورية فضلًا عن الفاسدة. والتأويل الصحيح هي الأمانة التي حُمّلَها الإنسانُ فحمَلها وأشفقَت منها الموجودات جميعُها، أعني المذكورة في قوله تعالى: “إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال” الآية. ومن قبل التأويلات، والظن بأنها مما يجب أن يصرح بها في الشرع للجميع، نشأتْ فِرَقُ الإسلام حتى كفَّرَ بعضُها بعضًا، وبدَّعَ بعضُهم بعضًا، وبخاصة الفاسدة منها”.
إذًا:
– التأويلُ أمانةٌ أخلاقيةٌ على كل متأوّل أن يتحملَ مسؤوليةَ تأويلاته، بحيث لا تؤدي التأويلات المتناقضة والدفاع عنها بالباطل إلى الصراع المجتمعي.
2. لا عذر للخطأ في تأويل مبادئ الشرع: وجود الله، والنبوات، والسعادة والشقاء الأخرويين
إن الخطأ في الشرع على ضربين، يبينهما ابن رشد، على النحو الآتي:
- “إما خطأ يُعذر فيه من هو من أهل النظر في ذلك الشيء الذي وقع فيه الخطأ، كما يُعذر الطبيبُ الماهرُ إذا أخطأ في صناعة الطب، والحاكمُ إذا أخطأ في الحكم، ولا يُعذر فيه من ليس من أهل ذلك الشأن”.
- “وإما خطأ ليس يُعذر فيه أحدٌ من الناس، بل إن وقع في مبادئ الشريعة فهو كفر، وإن وقع فيما بعد المبادئ فهو بدعة. وهذا الخطأ هو الخطأ الذي يكون في الأشياء التي تفضي أصناف طرق الدلائل جميعُها إلى معرفتها (البرهانية والخطابية والجدلية)، فتكون معرفةُ ذلك الشيء بهذه الجهة ممكنةً للجميع: وهذا مثل الإقرار بالله تبارك وتعالى، وبالنبوات، والسعادة الأخروية والشقاء الأخروي. وإذا اتفق، كما قلنا، أن نعلم الشيءَ بنفسه بالطرق الثلاث لمْ نحتجْ أنْ نضربَ له أمثالًا، وكان على ظاهره لا يتطرق إليه تأويلٌ. وهذا النحو من الظاهر إن كان في الأصول فالمتأول له كافرٌ، مثلُ مَنْ يعتقدُ أنه لا سعادة أخروية هاهنا ولا شقاء، وأنه إنما قصد بهذا القول أنْ يَسْلَمَ الناسُ بعضُهم من بعض في أبدانهم وحواسهم، وأنها حِيْلَةٌ، وأنه لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط”.
إذًا:
– لا تأويل في مبادئ الشرع الثلاثة: وجود الله، والنبوات، والسعادة والشقاء في الآخرة.
3. خطأُ العلماء في التأويل مصفوحٌ عنه، وخطأُ غيرهم إثمٌ محض
يقول ابن رشد: “ويشبه أن يكون المختلفون في تأويل هذه المسائل العويصة إما مصيبين مأجورين، وإما مخطئين معذورين. وذلك بالنسبة إلى أهل العلم. ولذلك قال عليه السلام: “إذا اجتهد الحاكمُ فأصاب فله أجرانِ وإذا أخطأ فله أجرٌ”. وأي حاكم أعظم –يقول ابن رشد– من الذي يحكم على الوجود بأنه كذا أو ليس بكذا؟ وهؤلاء الحكام هم العلماء الذين خصهم الله بالتأويل. وأما الخطأ الذي يقع من غير العلماء فهو إثمٌ محض، وسواء كان الخطأ في الأمور النظرية أو العملية“.
إذًا:
– خطأُ العلماء في التأويل مصفوحٌ عنه وخطأُ غيرِهم إثمٌ محض.
[خلاصة تأويلية: ضد التأويلات المُتَقَوِّلة: ابن رشد لا ينكر الخلود الفردي، ولا الحساب والعقاب الفردي]1. الحساب والعقاب للفرد لا للنوع:
هكذا يصرح ابن رشد بأن مَنْ ينكر الخلودَ والحسابَ كافرٌ، وقد ذهبتِ التأويلاتُ المتقوِّلةُ على ابن رشد، سواء عند تلاميذه اللاتين الغربيين قديمًا، أم عند إرنست رينان ومونك، وليون جوتييه، وغيرهم، حديثًا، إلى أن ابن رشد ينكر الخلود “الفردي”، ويتملق العامة، ويقول بخلود “النوع” الإنساني، (وهل يجوز أن يكون الحساب والعقاب للنوع لا للفرد؟!) فهذا النص من ابن رشد يقرر أنه يقول بما يقول به مبدأٌ رئيسٌ من مبادئ الشرع الثلاثة التي لا يجوز فيها التأويل وفق نص ابن رشد الصريح، وإلا سيكون ابن رشد –والحالة هذه– كمَنْ يكفرُ نفسَه بنفسِه، وهذا غيرُ معقولٍ، وتَقولٌ على نصوص ابن رشد التي تقرر بوضوح: لا تأويل في المبادئ.
وإذا كان ابن رشد متملقًا للعامة فكان الأجدر به أن يتملق قادتهم من الفقهاء والمتكلمين، لكنه هاجمهم بلا هوادة نصرةً للحق الذي يعتقده.
2. التفرقة بين العقل الفعَّال المُحَايث (عقل الفرد) والعقل الفعَّال المفارق (عقل النوع):
كما أنه –كما أقترحُ– ينبغي فهمُ مسألةِ الخلود عند ابن رشد بإجراء تحليل كلي لمفهوم العقل الفعَّال (وله معانٍ عدةٌ تختلفُ باختلاف السياق)، في كتاب النفس لابن رشد، وفي غيره من الكتب، ومفهوم الخلود، كونه مبدأ من مبادئ الشرع لا يقبل التأويل طبقًا لابن رشد نفسه، مفهومًا يجمع بين العقل الفعَّال المحايث للنفس الفردية، دون أن يكون مزيجًا مخالطًا لها، والعقل الفعَّال المتعالي المفارق، أي عقل النوع الإنساني (أي، وحدة المدركات العقلية التي ندركها جميعًا وبها يعقل الجنس البشري كله): فلا يوجد –كما أقترحُ– أيُّ مانعٍ من أنه متحققٌ في كل فرد من أفراد النوع الإنساني في الوقت نفسه. فالنفس عند ابن رشد كما أنها صورة للبدن، وهنا يتابع الشارح الأكبر أرسطو، لكنها في الوقت نفسه، جوهرٌ مستقلٌ عن البدن وهذا رأي ابن رشد الذي يتمم به النقص في فلسفة أرسطو، ليكون –كما أقترحُ– المتممَ الأكبرَ لأرسطو، وليس الشارح الأكبر فقط، فابن رشد لم يكن يتعبد بآراء أرسطو، بل بالله الذي فطر الناس ووهبهم نعمة القرآن والبرهان.
3. التفرقة بين مقامي الثبوت والإثبات عند ابن رشد:
وبهذا لا نتخذُ –بتعميمٍ خاطئ– من بعض نصوص ابن رشد نصًا ونجعله تأويلًا كليًا، بل ينبغي جمعُ نصوص ابن رشد جميعها التي هي –في نهاية المطاف– ليست إلا نصوصَ “الفقيه” “الفيلسوف” ابن رشد، أعني النصوصَ المنطلقةَ من مُنطلقات دينية (في مقام الثبوت)، لكن ابن رشد يقيم الأدلةَ العقليةَ عليها، في مقام الإثبات: حين يعرض لآراء الفلاسفة شارحًا لها، دون أن يعرض لرأيه الشخصي بحيث لا يتقول على نصوص أرسطو، وحين عرضه لرأيه الشخصي، في كتابه “الكشف عن مناهج الأدلة”، فأقام دليلين على الخلود الفردي: [1] الدليل الغائي (أن الله لم يخلق الكائنات عبثًا، بل لحكمة وغاية: إدراك الكمال في العلم والفضيلة. وهو دليل أفلاطون نفسه: لو فنى الإنسان بالموت فما أسعد حظ الأشرار!)، [2] ودليل التسوية بين الموت والنوم لبيان طبيعة الصلة بين النفس والجسم (الموت أخو النوم ومساوٍ له في تعطيل فعل النفس).
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتَنا التأويليةَ مع ابن رشد وكتبه: “فصل المقال”، “مناهج الأدلة”، “تهافت التهافت”: الفلسفة والتأويل: (11) جدل الظاهر والمؤول.
اقرأ أيضاً:
الجزء الواحد والأربعون من المقال
الجزء الثاني والأربعون من المقال
الجزء الثالث والأربعون من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا