فن وأدب - مقالاتمقالات

الكتابة عن الراحلين .. الجزء الأول

قبل سنين كان بعض الأساتذة في الجامعات العربية يرفضون طلب تلاميذهم تسجيل أطروحات ماجستير ودكتوراة عن أدباء وفلاسفة ومفكرين على قيد الحياة، وكانوا يقولون لهم، وهم يزاورون عيونهم خجلًا: “انتظروا حتى تكتمل تجربتهم برحيلهم عن الدنيا، وعندها بوسعكم أن تدرسوهم على وجه دقيق وكامل”.

لكن هذا المنطق المعوج لم يصمد طويلًا أمام إلحاح الطلاب وتغير الظروف وضغط الحقيقة، فاضطر هؤلاء الأساتذة إلى التراجع عن فكرتهم العقيمة، وتحمس أساتذة أصغر سنًا لهذا الاتجاه، فشجعوا تلاميذهم إلى المضي فيه، غير هيابين ولا متخاذلين، وبذا حضر أدباء ومفكرون وقائع مناقشة أطروحات عن أعمالهم، والتقط الدارسون وأعضاء لجان المناقشات معهم الصور التذكارية، وتبادلوا الأحاديث المفعمة بالود والعرفان.

مع هذا بقي شيء سلبي عند أغلبنا، وليس فقط عند الأساتذة المتحجرين، وهو عدم تذكر مآثر الناس ومناقبهم إلا بعد رحيلهم عن الدنيا، حتى صار هذا تقليدًا لم يعد يثير أي اشمئزاز أو غضب أو عجب.

لا أنسى يومًا كتبت فيه مقالًا عن أحد أساتذتي، أعدد فيه فضله عليَّ وزملائي وجيلي، حتى انهالت الاتصالات الهاتفية والرسائل على مواقع التواصل الاجتماعي تسألني بلا تردد أو مواربة: “متى مات الأستاذ فلان؟ وأين العزاء ومتى؟”، ولما كنت أجيبهم بأنه بخير، يتمتع بموفور الصحة والعافية، كانوا يتعجبون، حتى قالها أحد السائلين صريحة في وجهي: “إن كان لا يزال على قيد الحياة فلم كتبت عنه هكذا؟”.

صار أغلبنا لا يكتب عن شخص وبطريقة إيجابية إلا بعد موته. فما إن يموت كاتب أو أديب أو مفكر أو مصلح اجتماعي حتى تنهمر المقالات في الصحف كلها عنه، تتغنى بما تركه من أثر، وتغض الطرف عن مثالبه ونقائصه وعيوبه تطبيقًا لمقولة: “اذكروا محاسن موتاكم”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

يبالغ بعضهم في تقريظ الموتى حتى يكاد أن يشكك الناس في تصورهم عن الشخص الذي يُأبِّنونه، لتُطرَح مئات الأسئلة: “هل كان فعلًا بهذه الروعة ونحن لم نكن نعرف؟”، ويضرب في هذا المقام مثل ناصع بمقالات المديح التي انهمرت فوق جثمان كاتب صحفي كان معروفًا بنفاقه الرخيص للسلطة، وقسوته على كل من يعارضها، وغلظته وسماجته مع كل من تعاملوا معه عن قرب. وقد وصل ما كُتِب فيه من مبالغات حدًا مفرطًا إلى درجة أن كثيرين ظنوا أن من كتبوا قد قصدوا شخصًا آخر غيره.

لا يمنع هذا من أن يصفي بعض الجبناء حساباتهم مع غرماء موتى، لا يجرؤون على نقدهم أو القدح فيهم وهم على قيد الحياة، فيضمرون لهم كل شر، ويظهرون لهم غير ما يبطنون، فإن انتقلوا إلى رحمة الله تعالى أشهروا أقلامهم وألسنتهم لينهشوا لحومهم بلا حياء ولا ورع. لكن هؤلاء قلة أمام من يمسكون ألسنتهم، ليس ورعًا، إنما حتى لا يكتشف الناس جبنهم، وبعضهم يكتفي برحيل غريمه جائزة له، أو فرصة كي يتسع أمامه الطريق.

ربما يعود السبب الرئيسي للكتابة الغزيرة في مدائح الموتى الطازجين إلى الجيشان العاطفي إزاء رحيلهم، أو بمعنى أدق حيال الموت نفسه، الذي يعلم كل منا أنه ملاقيه ومدركه ولو كان في برج مشيد. وقد يرى بعضٌ منا أنها الفرصة الأخيرة للكتابة عن الميت، أو الطريقة المثلى لتوديعه إلى مثواه الأخير. وربما يتمنى بعضنا أن يُرَد له الجميل حين يموت هو، فيجد من يكتب عنه ولو سطورًا قليلة، بدلًا من أن يلف الصمت العميق نهايته.

حتى في هذه يتخلى الحظ أحيانًا عن بعض الموتى من البارزين، فيرحلون عن الدنيا بينما تضرب مجتمعاتهم أحداثًا جسامًا تأخذ بآذان وعيون الإعلام والناس، وتحجب عنهم أي أخبار تأتي من خارج الحديث الذي يتابعونه بشدة. ولعل المثل الأجلى في هذا هو طه حسين، الذي توفي بينما كانت حرب أكتوبر 1973 في عز عنفوانها، فأثر هذا على متابعة خبر وفاته على النحو الذي يليق به. وإذا كانت لطه حسين من الأعمال الأدبية والفكرية والنقدية والأراء والتصرفات ما يغلب النسيان فعاد الناس إليه حتى يومنا هذا، فإن هناك من ليس له قوة نفوذ عميد الأدب العربي، ولهذا يضيع خبر وفاته في زحام الأخبار، ولا يعود الكتاب إليه إلا نادرًا، وقد يسقط في بئر النسيان.

بالنسبة إلي فقد كتبت عن أناس على قيد الحياة. بعض كتاباتي كانت عن شخوصهم ومجمل منجزهم، وبعضها كان عن أعمال متفرقة لهذا أو هذه، كتب وروايات وقصص ومسرحيات ودواوين شعر وأطروحات جامعية وغيرها. لكنني كغيري كتبت عن أناس بعد رحيلهم، وفي السطور القادمة نماذج من بعض ما كتبته عن موتى طازجين.

يتبع…

مقالات ذات صلة:

هل النقد الأدبي معرفة؟

حرفة الأدب

نحو لغة أكاديمية مفهومة

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري