العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الرابع والثلاثون

 من الحس إلى العقل إلى الحدس: رحلة العقل نحو الله (7): مراحل تطور الوعي الإنساني (المرحلة السادسة)

المرحلة السادسة: حركة الوعي في المجتمع: دعوة الوعي غيره إلى اليقظة

من الخامس والثلاثين حتى الخمسين. بعد أن وصل ابن طفيل إلى سماوات الحدس الصوفي العليا يعود، وهو في سن الخمسين، ببطله حي بن يقظان إلى المجتمع وتظهر الشخصية الثانية في القصة: شخصية أبسال، وكذلك تظهر الشخصية الثالثة: شخصية سلامان.

قصة أبسال وسلامان: رمزا التأويل والظاهر

ذلك أنه كان هناك جزيرة قريبة من تلك التي ولد بها حي، وهذه الجزيرة انتقلت إليها ملةٌ من الملل الصحيحة (الملة، دين تعتنقه أمه) المأخوذة عن بعض الأنبياء. وكان قد نشأ بتلك الجزيرة فتيان من أهل الفضل والرغبة في الخير، يسمى أحدهما أبسال والآخر سلامان، وكانا مؤمنين بتلك الملة، إلا أن أبسال كان أشد غوصًا على الباطن، وأكثر عثورًا على المعاني الروحانية وأطمع في التأويل، بينما كان سلامان أكثر تمسكًا بالظاهر وأبعد عن التأويل، وأوقف عن الصرف، والتأمل.

كان في تلك الشريعة أقوال تحمل على العزلة والانفراد، وأخرى تحمل على المعاشرة وملازمة الجماعة. فتعلق أبسال بطلب العزلة، بينما تعلق سلامان بملازمة الجماعة.

مغادرة أبسال جزيرة سلامان ولقائه بحي بن يقظان

وكان أبسال قد سمع عن الجزيرة التي نشأ فيها حي بن يقظان، فارتحل إليها وكان يطوف بتلك الجزيرة فلا يرى أحدًا، إلى أن اتفق ذات مرة أن خرج حي بن يقظان لالتماس غذائه، وأبسال قد ألم بتلك الجهة، فوقع بصر كل واحد منهما على الآخر، فأما أبسال فلم يشك في أنه من العبّاد المنقطعين، وصل إلى تلك الجزيرة لطلب العزلة عن الناس. أما حي فلم يدر من هو، لأنه لم يره على صورة شيء من الحيوان الذي عرفه. فوقف يتعجب من أبسال. وولى أبسال خائفًا منه خيفة أن يشغله عن عزلته، فاقتفى حي بن يقظان أثره لما كان في طباعه من البحث عن حقائق الأشياء.

تعليم أبسال حيًّا الكلام والعلم والدين

فشرع أبسال في الصلاة والقراءة فجعل حي يتقرب منه قليلًا قليلًا حتى دنا منه بحيث يسمع قراءته وتسبيحه، فسمع صوتًا حسنًا وحروفًا منظمة لم يعهد مثلها في شيء من أصناف الحيوان.

فلما أحس به أبسال فرّ منه، فلحق به حي وأظهر البشر والفرح، وكان أبسال قد مهر في كثير من الألسن، فظل يتكلم بكل لسان يعرفه فلم يستطع إفهامه شيئًا، وحي بن يقظان في ذلك كله يتعجب مما يسمع ويرى. ثم أنس كلٌ منهما بالآخر، ورجا أبسال أن يعلمه الكلام والعلم والدين ليكون له بذلك أجر عند الله وزلفى (قربى).

فشرع في تعليمه الكلام بأن كان يشير إلى أعيان الموجودات وينطق بأسمائها ويكرر ذلك عليه، حتى جعله يتكلم في أقرب مدة، وهي طريقة حديثة في تعليم اللغات، وإذا كان حي بن يقظان قد وصل بعقله إلى ما وصل إليه من ترقٍ وسموٍ للوعي، قبل تعلم اللغة، فذلك يعني أن الفكر يمكن أن يكون مستقلًا عن اللغة الخارجية، وأن بالإنسان لغة أخرى لغة “باطنية” –ليست لسانًا من الألسنة– يعمل بها فكره! وهي نظرية أخرى من مبتكرات ابن طفيل!

أصول العقل متفقة مع أصول الشرع

لم يشك أبسال في شريعة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وأمور المعاد، وهو ما شاهده حي: وهنالك سأله أبسال عن شأنه ومن أين صار إلى تلك الجزيرة فأعلمه حي أن لا يدري لنفسه ابتداء ولا أبًا ولا أمًا أكثر من الظبية التي ربته، ووصف له شأنه كله، وكيف ترقى بالمعرفة حتى انتهى إلى درجة الوصول (الاتصال).

فلما سمع منه أبسال وصف تلك الحقائق والذوات المفارقة لعالم الحس ووصف ذات الله، لم يشك أبسال في أن جميع الأشياء التي وردت في شريعته من أمر الله عز وجل، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وجنته وناره، هي أمثلة هذه التي شاهدها حي بن يقظان، فانفتح بصره، وتطابق عنده المعقول والمنقول.

وجعل حي يستفصحه عن أمره، فجعل أبسال يصف له شأن الجزيرة وما فيها من الناس، ووصف له جميع ما ورد في الشريعة من وصف العالم الإلهي والجنة والنار والبعث والنشور والحشر والحساب والميزان والصراط، ففهم حي بن يقظان هذا كله ولم ير فيه شيئًا على خلاف ما شاهده في مقامه الكريم، فعلم أن الذي وصف ذلك وجاء به محقٌ في وصفه، صادقٌ في قوله، رسولٌ من عند ربه، فآمن به وصدقه وشهد برسالته.

فما عرفه أبسال نقلًا عرفه حي مشاهدة، فتطابق المعقول والمنقول، وقرب عليه التأويل، فعظمه أبسال ووقره واعتبره من أولياء الله، والتزم بخدمته والاقتداء به والأخذ بإشاراته فيما تعارض عنده من الأعمال الشرعية في ملته.

في الدين تفاصيل قد لا يصل إليها العقل مباشرة

ثم جعل يسأله عما جاء به هذا الدين من الفرائض والعبادات فوصف له الصلاة والزكاة والصيام والحج وما أشبههما من الأعمال الظاهرة، فتلقى ذلك والتزمه، وأخذ نفسه بأدائه.

إلا أن بقي في نفسه أمران كان يتعجب منهما ولا يدري وجه الحكمة فيهما: أولهما: لم ضرب الرسول الأمثال للناس في أكثر ما وصفه من أمر العالم، وأضرب عن المكاشفة حتى وقع الناس في التجسيم؟ والثاني: لم اقتصر على هذه الفرائض وأباح الاقتناء للأموال والتوسع في المآكل حتى يفرغ الناس للاشتغال بالباطل والإعراض عن الحق؟ وكان رأيه هو (أي حي بن يقظان) ألا يتناول أحدٌ شيئًا إلا ما يقيم به الرمق، وأما الأموال فلم تكن لها عنده معنى.

وكان يرى ما في الشرع من الأحكام في أمر الأموال: كالزكاة وتشعبها والبيوع والربا والحدود والعقوبات يرى في كل ذلك تطويلًا وكان يستغرب ذلك كله.

دعوة الناس إلى الفلسفة

فاشتد إشفاق حي بن يقظان على الناس وطمع أن تكون نجاتهم على يديه، وفاوض أبسال في الرحيل معًا إلى جزيرته.

سلامان يؤثر السلامة وملازمة الجماعة

واتفق أن ضلت سفينةٌ ووصلت إلى هناك، فركباها وسارت بها إلى جزيرة أبسال، وكان على رأسها حينئذ سلامان صاحب أبسال.

نقص فطر العامة

ظن حي أنه يستطيع أن يعلّم الناس أكثر مما علمهم الدين: فشرع حي في تعليم أهلها فجعلوا ينقبضون عنه ويدبرون عنه، فيئس من إصلاحهم وانقطع رجاؤه في صلاحهم، لأن العامة يرضون بالدين لا بالفلسفة ولا بالتصوف.

أغلب الناس بمنزلة الحيوان غير الناطق

وتصفح طبقات الناس فرأى كل حزبٍ بما لديهم فرحين، وأما الحكمة فلا سبيل لهم إليها، وأن أكثرهم بمنزلة الحيوان غير الناطق، فالعامة لا يتمسكون من الدين إلا بالدنيا، وأن الحكمة فيما نطقت به الرسل ووردت به الشريعة دون زيادة، فكل ميسر لما خلق له، وأن الأنبياء أعرف منه بالنفس البشرية.

الاعتذار لسلامان وأصحابه

فانصرف إلى سلامان وأصحابه فاعتذر عما تكلم به معهم، وتبرأ إليهم منه وأعلمهم أنه قد رأى مثل رأيهم واهتدى بمثل هديهم وأوصاهم بملازمة ما هم عليه من التزام حدود الشرع والأعمال الظاهرة، والاقتداء بالسلف الصالح، والترك لمحدثات الأمور.

نهاية القصة

ثم تلطف هو وأبسال في العودة إلى جزيرتهما، وطلب حي بن يقظان مقامه الكريم، واقتدى به أبسال، وعبدا الله في تلك الجزيرة حتى أتاهما اليقين (الموت).

خلاصة تأويلية لقصة حي بن يقظان

أولًا: نسجل هنا هذه الملحوظة المهمة

الشريعة هي التي انضمت إلى الحقيقة وتبعتها، فالدين حق ويتبع اليقين الحق.

اتفاق حي وأبسال: اتفاق العقل والتأويل، أو اتفاق العقل والحدس، أو اتفاق البرهان والعرفان: في هذه المرحلة السادسة، والأخيرة، يصل الوعي، الذي اكتمل، إلى فكرة ضرورة دعوة الآخرين حتى يتحقق لهم أعلى درجات يقظة الوعي.

وسوف يتفرق الخلق إلى أربعة طرق:

1. طريق حي بن يقظان: طريق التأمل النظري حتى الإشراق الروحي، وهو طريق خواص الخواص.
2. طريق أبسال: طريق تأويل الشريعة، طريق الخواص.

والطريق الأول والثاني يمكن أن يتفقا معًا فيصيرا طريقًا واحدًا.

3. طريق سلامان: طريق أصحاب الظاهر.
4. طريق الجمهور أو العامة: طريق الذين ينظرون إلى الدين بمنظار الدنيا.

ثانيًا: نظرية المعرفة عند ابن طفيل، أو تطور الوعي الإنساني، من الحواس الى العقل إلى الحدس

نظرية تكاملية يمكن أن نستدعيها في عصرنا الحديث

الحواس للتقدم العلمي والتكنولوجي، والعقل للفلسفة، والحدس للدين الموحى به، ولا تتناقض كل هذه الوسائل، بل تتكامل وتتعاضد، فنعطي لكل وسيلة مجالها الذي تعمل فيه، فلا تتداخل المجالات، ولا تتعارض، ولا تتناقض، كما عند ابن طفيل.

نعم يمكننا البناء على نظرية المعرفة وتطور الوعي الإنساني كما قدمه ابن طفيل، وعيًا متطورًا مترقيًا يحقق خير الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة. إن الفلسفة هي الميراث المشترك بين البشر جميعا: كلنا نعيش ذات الهموم الفكرية والإنسانية.

إن نظرية المعرفة التكاملية، كما أسسها ابن طفيل، تدل على خلود فكره الكوني: الفلسفي والأدبي، وتمنحه طابعًا إنسانيًا عالميًا، لا يتوقف عند ملة محددة أو عقيدة معينة.

وقد جاء ابن رشد ليلتقط الخيط من أستاذه ابن طفيل، فحاول أن يبين حدود العلاقة المتشابكة بين الفلسفة والتأويل والدين.

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نبدأ رحلتنا التأويلية مع الفيلسوف الثالث، من فلاسفة المدرسة المشائية في المغرب والأندلس: ابن رشد وكتابه “فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال”: الفلسفة والتأويل.

اقرأ أيضاً: 

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا