فن وأدب - مقالاتمقالات

الحذر

يا صاحبي لا تنشغل كثيرًا بأولئك الّذين يكرهونك ويعادونك، فهؤلاء واضحون، كالشّمس ظاهرون، لا خطر فيهم، ولا خوف منهم، وإن حقّ لك الخوف، فبإمكانك أن تتعامل مع قلوبهم، وتتعايش في دروبهم، وبخاصّةً أنّهم لا يخفون فعلهم، ولا يسترون قولهم، ولا يضمرون كرههم، ومن ثمّ فلا يغيب عنك أمرهم، ولا يسدلون وخزهم، قد ناصبوك –وأنت تعلم– العداء، وألّبوا عليك الأصدقاء قبل الأعداء، لا يألون جهدًا صباح مساء، ينصبون لك الشّراك، ويحرقون لك الثّمر والأراك، تعرفهم بسيماهم، وتتبيّن شأنهم ورؤاهم، يجاهرونك الشّقاء، ويعلنون لك الفناء، ويتمنّون لك الموت والهباء، والعناء واللأواء!

إنّما الخوف يا صاحبي من هؤلاء المنافقين المتلوّنين، الّذين أحرق الحقد قلوبهم، وطمس الحسد نفوسهم، يتخفّون في ثوب الصّداقة، ويتزيّون بالقرب والّلباقة، قد حسنت ألسنتهم، وسقمت أفئدتهم، ومرضت أرواحهم، أولئكم الّذين يتكأكؤون عليك، ويتقرّبون إليك، ويضحكون بين يديك، وهم يضمرون لك الموت والعفاء، ويتمنّون الحمام والقضاء، وبينما يصافحونك بيد، تتأهّب الأخرى بالضّغط على الزّناد لنيل المراد، فالحذر الحذر منهم، فلا تأمن شرّهم، وترقّب دائمًا وأبدًا خيانتهم وغدرهم!

ولتعلم أنّه من أصعب الأشياء أن يعيش الإنسان –واهمًا– واقعًا يتخيّله مع الآخرين، يبني قصورًا من آمال أبديّة، وبنايات من أمنيات سرمديّة، يداعبه طيف وثير، وحلم جميل أثير، ملؤه السّعادة والحبّ والعناق، والحياة والإخلاص والانطلاق، والودّ والوفاء، والتّسامح والهناء، ثمّ إذا به يستيقظ مذعورًا أنّه كان في حلم، محض حلم، يمنّي نفسه الأمانيّ، ولا شيء غير الأمانيّ، ويدرك آنئذ أنّه كان في واد سحيق، تتراءى له مدينة مثاليّة فاضلة، ينسج غزلها، وينظم عقدها مع أناس محّضهم الحبّ، وولّاهم القرب، وأسبغ عليهم الابتسام، ومنحهم الغرام، منتظرًا إيّاهم، كي يحيا معهم ما تبقّى له من عمر، وما يمنّي نفسه من جميل القدر، بينما هم هنالك في الضّفّة الأخرى قد صمّوا آذانهم، وأغشيت أبصارهم، يصنعون ما بدا لهم، يعيشون حياتهم، ويصطخبون في أناتهم، لا يرونه، ولا يحسّون به، ولا يشعرون بشخصه وماهيّته، ولا يأبهون بكينونته وهويّته، بل الحقيقة المرّة أنّه ليس له وجود في عالمهم، ولا ذكر في دنياهم، فلا يهتمّون بأحلامه، وآماله، ولا يأبهون بعذاباته وخيالاته، أو بتصوّراته وتوسّلاته، يفعلون ما بدا لهم، ويقومون بما عنّ لشأنهم بعيدًا عن أناه، قصيًّا عن وجوده ورؤاه.

وفي تلكم الحياة القاسية التي نعانيها، ونتلظى بنارها، مع أناس لا يهمهم سوى مصالحهم الشخصية، قلت، من الوافر:

أقاسي الهمّ في وخز الشّقاء      وأبلو الحزن في دَرَج العناء

اضغط على الاعلان لو أعجبك

وأحبو في ربى الأشواك طفلًا      فتنهشني الكهولة بالخواء

أجالد في دنى الأوهام يأسي     ويمنعني الحياء من البكاء

هي الدّنيا تعاندني وتأبى           وتأسرني ببعض من حباء

تراودني ببعض الوصل سرًّا          وتفجعني بجهر من جفاء

تقاتلني بلا عطف أصيلًا              وترجوني فتاها في المساء

سئمت فعالها في كلّ وقت         وأدركت الخداع بلا عماء

وأيقـنت الصّدى في كلّ درب       وبرق الخادعين بلا رواء

حياتي كلّها شحط ووهم            وتسهيد بلا أمل الّلقاء

وسعي في دروب الوخز طرًّا        وسير في متاهات الغثاء

ورفع للحقير بكلّ أرض                وخفض للعليم بلا كفاء

وطأطأة لذي عقل وفهم             ومنزلة لجهل ذي ازدراء

تمازج في رباها كلّ شيء          فوخز الحرّ في فصل الشّتاء

ونار البعد في جنّات قرب            ووصل الشّوق في هجر وداء

وكلّ الشّهد منها في اختلاط       وماء الورد معدوم الصّفاء

وكلّ رضابها صاب محلّى             ووعد وصالها كلّ البلاء

ربيبة كلّ أسقام ووهن               ضنينة كلّ حبّ واحتواء

تقرّب كلّ منقصة وتدنو               وتبعد كلّ شأو بانزواء

هي الدّنيا تنادي قاطنيها            أنا الدّنيا بلا أدنى خفاء

اقرأ أيضاً:

صناعة الكراهية

معضلة الأسود

المتلونون

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. محمد دياب غزاوي

أستاذ ورئيس قسم اللغة العربية- جامعة الفيوم وكيل الكلية ( سابقا)- عضو اتحاد الكتاب