العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الثلاثون
المدرسة المشَّائية: (28) ابن طُفَيْل وكتابه "حَيُّ بن يَقْظَان"
تطور الوعي الإنساني من الحس إلى العقل إلى الحَدْس: رحلة العقل نحو الله (3): مراحل تطور الوعي الإنساني (المرحلة الأولى والثانية)
بعد أن عرضنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة، (ج 29)، لنظريتين لتفسير نشأة حي بن يقظان/الإنسان، نفحص –في هذه الدردشة– مراحل تطور الوعي الإنساني، وهي ستُ مراحل تقريبية متداخلة متدرجة، مرَّ بها حيُّ بن يَقْظَان، عبر الطفولة والصبا والشباب والرجولة والكهولة والشيخوخة. مرحلتان من الوعي الحسي، ومرحلتان إلى الوعي العقلي، ومرحلتان إلى الوعي الحَدْسي، فالمجموع ست مراحل.
هذه المراحل الست على النحو الآتي: المرحلة الأولى: الوعي الحسي: التفاعل مع الطبيعة، المرحلة الثانية: الوعي الحسي: التعلم عن طريق التجربة، المرحلة الثالثة: الوعي العقلي: على تُخُوم العالم العي قلي، المرحلة الرابعة: الوعي العقلي: المرحلة الفلسفية، المرحلة الخامسة: الوعي الحَدْسي: الحَدْس بالإيمان، المرحلة السادسة: الوعي الحَدْسي: عُزلةُ الوعي في المجتمع.
سأحاولُ أنْ أجتهدَ –صديقي القارئ صديقتي القارئة– فأعرض عليك معالمَ هذه القصة الفلسفية الفريدة، حتى كأنك ترى: كيف تطور وعيك أنت شخصيًا، فما أنا وأنت، إن كنا من الأحياء اليقظين حقًا وكان كل منا “حي بن يقظان” بالفعل، إلا بطل قصة الوعي بالوجودِ وحقيقته.
المرحلة الأولى: الوعي الحسي: التفاعل مع الطبيعة
أولى مراحل الوعي الإنساني، تبدأ من مرحلة الطفولة، وهي سنتان، هنالك لم يكن بتلك الجزيرة شيء من السباع فتربى الطفل ونما حتى تم له عامان.
تربية الظبية:
وكان يتغذى بلبن الظبية وتدرج في المشي، ولما ظهرت أسنانه حملته الظبية إلى مواضع فيها شجر مثمر وأطعمته ما تساقط من ثمراتها.
التقليد والمحاكاة:
وكانتْ بدايةُ الكلام بتقليد الأصوات، ومحاكاة نغمتها بصوته، فحاكى الطفل حيُّ بن يقظان جميعَ ما يسمعه من أصوات الطير، وأنواع سائر الحيوان، فألفته الوحوشُ وألفها.
التفاعل مع الطبيعة:
وتعلمَّ حَيُّ بن يَقْظَان كيفيةَ التفاعل مع الطبيعة، فلما رأى جميعَ الحيوان مكسوًا بالوبر أو الشعر أو الريش، ورأى منها ما هو سريع العدو والبطش، وما لها من الأسلحة المعدة لمدافعة من ينازعها، مثل القرون والأنياب والحوافر والمخالب، فكر في ذلك كله.
يشيرُ ابن طفيل، في هذه المرحلة الأولى، من مراحل تطور الوعي عند حي بن يقظان، إلى أن الإنسانَ يبدأُ رحلةَ الوعي بالتقليد والمحاكاة لما حوله في الطبيعة، ولولا هذا التقليد والتفاعل مع الطبيعة ما نما الوعي، وما تعلم الإنسان شيئًا، ففي الطبيعة خيرهُ، وفيها أذيته، وهي أمُّه ومعلمته الأولى.
المرحلة الثانية: الوعي الحسي: التعلم عن طريق التجربة
المرحلة الثانية، من مراحل الوعي الإنساني، عند حي بن يقظان، مرحلة الصبا، من الثانية حتى السابعة. وفيها يتعلم حي بن يقظان عن طريق القياس على ذاته، وعن طريق التجربة.
اكتشاف العورة و تغطيتها وسترها:
ثم رجع حَيُّ بن يَقْظَان إلى نفسه، ورأى ما به من العُري، وعدم السلاح، فكان ذلك كله يكربه ويسوءه. فلما طالَ همُه في ذلك كله، وهو قد قاربَ سبعةَ أعوام، اتخذ من أوراق الشجر العريضة شيئًا، جعل بعضه خلفه وبعضه قُدَّامه، وعمل من الخوص والحلفا شبهَ حزامٍ على وسطه علق به تلك الأوراق.
وصادف نسرًا مَيْتًا، فأقدم عليه وقطع جناحية وذنبه، وفتح ريشها وسوَّاها، وسلخ عنه سائر جلده، وفصله على قطعتين ربط أحدهما على ظهره، والأخرى على سُرَّته وما تحتها، وعلَّق الذَّنَبَ من خلفه، وعلَّق الجناحين على عضديه، فأكسبه ذلك سترًا ودفئًا ومهابة في نفوس جميع الوحوش.
الدفاع عن النفس وحفظ الحياة:
وصنع، حَيُّ بن يَقْظَان، من أغصان الشجر عصيًا للدفاع عن نفسه، واكتشف الأسلحة والنبالة للدفاع عن بعد، واكتشف آلات الصيد.
نشأة العواطف والمشاعر:
ويصف ابن طفيل في هذه المرحلة كيفية نشأة عواطف حي بن يقظان تجاه أمه الظَبْية نشأةً طبيعية.
مواجهة الموت:
ويكتشف حي بن يقظان الموتَ، الذي أدرك الظَبْيةَ بعد أن أصابها الهزالُ، فسكنتْ حركاتُها بالجملة، وتعطلتْ جميعُ أفعالها. فلما رآها الصبيُّ على تلك الحالة جزع جزعًا شديدًا، وكادتْ نفسُه تفيضُ أسفًا عليها. فكان يناديها فلا تجيبه.
القلب سبب الموت:
وحاول استطلاع سبب ما جرى لها فلم يهتد. فظل يفتش في كل أعضائها إلى أن اهتدى أخيرًا إلى عضو في الجانب الأيسر من الصدر هو القلب. فجرده فرآه مصمتًا من كل جهة، فظل يقلبه ويفحصه فلم يعثر فيه على آفة.
اكتشاف الرُوح الحيواني:
فاعتقد أن الساكن في ذلك البيت الخالي (التجويف الأيسر في القلب)، وكان سبب الوفاة، قد ارتحلَ قبل انهدامه وتركه وهو بحاله، فتحقق أنه أحرى أن لا يعود إليه، فتبين له أن الجسد كله خسيس لا قَدْرَ له بالإضافة إلى ذلك الشيء الذي سكنه مدة ثم ارتحل. هنالك فكر حَيُّ بن يَقْظَان: ما هو ذلك الراحل؟ وكيف هو؟ وماذا ربطه بالجسد؟ وإلى أين صار؟ ومن أي الأبواب خرج عند خروجه من الجسد؟ وما السبب الذي أزعجه إن كان خرج كارهًا؟ وما السبب الذي كرَّه إليه الجسدَ حتى فارقه، إن كان خرج مختارًا؟ وتشتت فكرُه في هذا كله، وسلا عن ذلك الجسد، وطرحه.
الانتقال من الجسد إلى محرك الجسد:
وعلم حَيُّ بن يَقْظَان أن أمه التي عطفت عليه وأرضعته، إنما كانت ذلك الشيء المرتحل، وعنه كانت تصدر تلك الأفعالُ كلُها، لا هذا الجسد العاطل، وأن هذا الجسد بجملته، إنما هو الآلة لذلك، وبمنزلة العصا التي اتخذها هو لقتال الوحوش فانتقلت علاقته من الجسد إلى صاحب الجسد ومحركه، ولم يبق له شوقٌ إلا إليه.
تعلم الدفن:
وخلال ذلك نتنَ ذلك الجسدُ، فزادت نفرتُه منه وودَّ ألا يراه، ثم أنه سنح لنظره غرابان يقتتلان حتى صرع أحدهما الآخر ميتًا، ثم جعل الحي يبحث في الأرض حتى حفر حفرةً، فوارى فيها ذلك الميتَ بالتراب. فاهتدى إلى أن يصنع بأمه صنيع الغراب بزميله، فحفر حفرةً وألقى فيها جسد أمه وحثا عليه التراب، وبقي يتفكر في ذلك الشيء المصرف للجسد، ولا يدري ما هو.
اكتشاف النار:
وبقي زمنًا يتصفح أنواع الحيوان والنبات ويطوف بساحل تلك الجزيرة فاتفق له أن كان يرى في بعض الأحيان نارًا تنقدح في أجمة قلخٍ (قصب أجوف) نتيجةَ احتكاكِ بعضها ببعض، فلما بصر بها، وقف متعجبًا ومد يده إليها، فلما باشرها أحرقتْ يدَه. فاهتدى إلى أن يأخذ قبسًا لمْ تستولِ النار على جميعه، فأخذ بطرفه السليم، والنار في طرفه الآخر، وحمله إلى موضعه الذي كان يأوي إليه، وكان قد خلا في جُحر استحسنه للسكنى قبل ذلك.
ثم ما زال يمد تلك النار بالحشيش والحطب ويتعهدها ليلًا ونهارًا استحسانًا لها وتعجبًا منها، وزاد أنسُه بها ليلًا، لأنها كانت تقوم له مقام الشمس في الضياء والدفء فعظم بها ولوعُه، واعتقد أنها أفضل الأشياء التي لديه، وكان دائمًا يراها تتحرك إلى جهة فوق وتطلب العلو، فغلب على ظنه أنها من جملة الجواهر السماوية التي كان يشاهدها. هنالك ظن أن الشيء الذي ارتحل من قلب أمه الظَبْية، لا بد أنه من جوهر النار أو من شيء يجانسه.
اكتشاف الطهي:
وبعد اكتشاف النار اكتشف الطهي وإنضاج الطعام من أسماك ولحوم بالنار، وانتقل من مرحلة الثمار إلى مرحلة الطهي (ومرحلة اكتشاف النار مرحلة مهمة في تاريخ الإنسان الأول).
اكتشاف التشريح:
ونزع إلى البحث عن سائر أعضاء الحيوان وترتيبها وأوضاعها، وكيانها وكيفية ارتباط بعضها ببعض وكيف تستمد من ذلك البخار الحار (الرُوح الحيواني) حتى تستمر لها الحياةُ به، حتى بلغ من ذلك كله مبلغَ كبارِ الطبيعيين.
والرُوح الحيواني واحدٌ إذا عمل بآلة العين كان فعله إبصارًا، وإذا عمل بآلة الأنف كان فعله شمًا، وإذا عمل بآلة اللسان كان فعله ذوقًا وهكذا، فإن خرج هذا الرُوحُ من الجسد، أو فنى أو تحلل بوجه من الوجوه، تعطل الجسدُ كله، وصار إلى حالة الموت. فانتهى به هذا النحو من النظر (البحث) إلى هذا الحد من النظر (الفكر)، على رأس ثلاثة أسابيع من منشئه، وذلك أحد وعشرون عامًا، إذ تبدأ المرحلةُ الثالثة.
في هذه المرحلة الثانية، يتطور الوعيُ الإنساني، عند حي بن يقظان، من مرحلة محاكاة الطبيعة، إلى مرحلة القياس على النفس والأشياء، والتعلم عن طريق التجربة والخبرة، وكلتا المرحلتين الأولى والثانية، ماديةٌ وحسية، تلعبُ فيهما الحواسُ الدورَ الرئيس.
في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتَنا التأويليةَ مع بقية مراحل تطور الوعي الإنساني عند ابن طفيل: ابن طُفَيْل وكتابه “حي بن يقظان”: تطور الوعي الإنساني من الحس إلى العقل إلى الحَدْس: رحلة العقل نحو الله (4): مراحل تطور الوعي الإنساني (المرحلة الثالثة).
اقرأ أيضاً:
الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس
الجزء السادس، الجزء السابع، الجزء الثامن، الجزء التاسع، الجزء العاشر
الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر، الجزء الثالث عشر، الجزء الرابع عشر
الجزء الخامس عشر، الجزء السادس عشر، الجزء السابع عشر، الجزء الثامن عشر
الجزء التاسع عشر، الجزء العشرون، الجزء الواحد والعشرون
الجزء الثاني والعشرون، الجزء الثالث والعشرون، الجزء الرابع والعشرون
الجزء الخامس والعشرون، الجزء السادس والعشرون، الجزء السابع والعشرون
الجزء الثامن والعشرون، الجزء التاسع والعشرون
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا