قضايا وجودية - مقالاتمقالات

العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الثامن والعشرون

المدرسة المشَّائية: (26) ابن طفيل وكتابه "حَيُّ بن يَقْظَان": تطور الوعي الإنساني

من الحس إلى العقل إلى الحَدْس: رحلة العقل نحو الله (1): المقدمة

لنبدأ في هذه الدردشة –صديقي القارئ صديقتي القارئة– بالعَلَمِ الثاني من فلاسفة المدرسة المشَّائية في المغرب العربي: ابن طُفَيْل، لننظرَ –في نهايةِ رحلتِنا الفكريةِ التأويليةِ معه– ماذا يمكن أنْ نأخذَ منه، وما يصلح أنْ نؤسسَ عليه من أفكارهِ وفلسفتِه في تطور الوعي الإنساني.

ابن طُفَيْل وكتابه: “حيُّ بن يَقْظَان”

ابن طفيل: (أبو بكر محمد بن عبد الملك الأندلسي، المتوفى عام 581هـ/ 1185م) وكتابه حي بن يقظان، ضمن كتاب الدكتور يوسف زيدان: حي بن يقظان، النصوص الأربعة ومبدعوها، دار الأمين، القاهرة، الطبعة الثانية، 1998 م.

لمْ يبقَ لنا –ويا للأسف!– من مؤلفات ابن طفيل إلا كتابًا وحيدًا فريدًا فذًا، هو قصته الفلسفية–الصوفية: “حيُّ بن يَقْظَان”، التي ترجمت إلى عديد من اللغات الأوروبية الحديثة، بعد أن ترجمها إلى اللاتينية بوكوك (Bockocke) عام 1671م، بعنوان “الفيلسوف المعلم نفسه” (Philosophus autodacticus)، وكان لكتاب حي بن يقظان الأثرُ الكبيرُ على فلاسفة وأدباء الشرق والغرب، في العالمين الإسلامي والغربي، على السواء.

حَيُّ بن يَقْظَان: أسرارُ الحكمةِ المشرقيةِ للشيخ الرئيس ابن سينا

يستهّلُ ابنُ طفيل روايتَه الفلسفيةَ حي بن يقظان، بمقدمةٍ يقول فيها: “سألتَ أيها الأخُ الكريمُ، الصفيُ الحميم –منحك الله البقاءَ الأبديَّ، وأسعدكَ السعدَ السرمديَّ– أن أبثَّ إليك ما أمكنني بثَّه، من أسرار الحكمة المشرقية، التي ذكرها الشيخُ الرئيسُ، أبو علي بن سينا، بقوله: فاعلمَ أنَّ مَنْ أرادَ الحقَ الذي لا جمجمة فيه، فعليه بطلبها والجد في اقتنائها”.

عنوان القصة الأصلي على النحو الآتي: “رسالة حي بن يقظان في أسرار الحكمة المشرقية، استخلصها من دُررِ جواهرِ ألفاظِ الرئيس أبي علي بن سينا، الإمامُ الفيلسوفُ الكامُل العارفُ أبو بكر بن طفيل”. وذلك لأن ابن سينا أولُ من كتب قصةَ حي بن يقظان، في العالم الإسلامي، (قيل أنها مأخوذة عن أصل يوناني سكندري مصري مفقود)، وسيكتبها من بعد ابن طفيل السهروردي المقتول (وأسماها الغُربة الغَرْبية)، وكذلك كتبها العلاَّمةُ ابن النفيس (وأطلق عليها اسم: كامل بن ناطق).

اضغط على الاعلان لو أعجبك

لكن الفارق بين قصة ابن سينا وقصة ابن طفيل هو كالفارق بين القصة القصيرة والرواية في عصرنا الحديث، هذا من ناحية الشكل. أما من ناحية المضمون، فدلالات رموز ابن طفيل الفلسفية تختلف عن دلالات رموز ابن سينا الفلسفية اختلافَ فلسفة الوجود السينوية (راجع العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية من ج 13 إلى ج 22) عن فلسفة تطور الوعي الإنساني عند ابن طفيل، ففلسفة ابن طفيل تتقاطع مع فلسفة ابن سينا، لكنها لا تقطع معها.

حَيُّ بن يَقْظَان: قصةٌ رمزيةٌ فلسفية

ابن طفيل

قصة حي بن يقظان –كما يقترح هذا التأويل– قصة رمزية فلسفية تحكي تطورَ الوعي الإنساني وتدرجه: من الحس (المعرفة المادية المبنية على الحواس، مثل التي عند علماء الطبيعة)، إلى العقل (المعرفة المبنية على المنطق، مثل التي عند الفلاسفة)، إلى الحَدْس (المعرفة المبنية على الكشف والإلهام، مثل التي عند المتصوفة). وفيها يعرض ابن طفيل قصةَ ارتقاءِ العقلِ الإنساني، الذي يمثله حي بن يقظان، وكيف تطور هذا الوعي، عبر تصفح حي ابن يقظان للموجودات بحواسه، ثم تأمله، بعقله، في الوجود: في الأرض وفي السماء، إلى أن عرف ووصل إلى أن للموجودات موجدًا، هو موجد الموجودات وعلتها، بدايتها ونهايتها: واجب الوجود سبحانه وتعالى، إلى حَدْسِه الصوفي المباشر واتصاله –بالمجاهدة والمشاهدة– بمبدأ الوجود تعالى.

في هذه القصة الفلسفية يعرض لنا ابن طفيل، بلغةٍ رامزة ولكنها واضحة، ساحرة، أدبية، نثرية، شاعرية، بارعة، مسائلَ الفلسفةِ العويصةِ العميقةِ: تفسير نشأة الإنسان، ومشكلة الحياة، ومشكلة الموت، ومشكلة حدوث العالم وقدمه، وفلسفة البيئة، ومشكلة تجرد النفس وخلودها، ومشكلة العلاقة بين الفلسفة والتصوف، والعلاقة بين الفلسفة والدين، والصراع المجتمعي بين الفقهاء والفلاسفة والصوفية والعامة، وغيرها من المشكلات الفلسفية.

حَيُّ بن يَقْظَان: نظريةٌ معرفيةٌ تطوريةٌ تكاملية

ابن طفيل يعرض هذه المشكلات كلها عبر نظرية معرفية (إبستيمولوجية) تطورية تكاملية: تجمعُ بين النظريةِ الماديةِ الحسيةِ، والعقليةِ المجردة، والحدسيةِ الملهمة، لا محضَ تجميع لوسائلَ ينقض بعضُها بعضًا، بل عبر تطورٍ وترقٍ وارتقاءٍ معرفي من المحسوس إلى المعقول، إلى المعرفة الحدسية الإلهامية المباشرة، التي هي طَورٌ أعلى فوق طور المحسوس والمعقول.

حَيُّ بن يَقْظَان: قصةُ نشأةِ الإنسانِ وتطورِ وعيه

لا وجودَ للوعي دون وجود للإنسان أولًا، فكان على ابن طفيل أن يحدثنا أولًا عن نشأة الإنسان، ويفسر لنا سبب وجوده في العالم، وكيف وُلد الإنسانُ ووُجدَ في عالم مكتمل، أُعدَ مسبقًا لاستقبال هذا الكائن الفريد: الإنسان/حي بن يقظان. فقبل أن يوجدَ الإنسانُ وُجدَ العالمُ أولًا: بأرضه، وعناصره ونباته وحيوانه، وسماواته ونجومه وأفلاكه، أعني وجد العالم بقسمية: ما فوق فلك القمر وما تحت فلك القمر، ثم وجد الإنسان في المرحلة الأخيرة من وجود الموجودات، ليكون سيدَ الموجودات كلها، والمتميزَ عن الموجودات كلها، لا لشيء إلا لأنه أُعطيَ الوعيَ الذي يمكّنه من إدراك نفسه وإدراك الموجودات، وإدراك الوجود، وإدراك موجد الموجودات وواجب الوجود كله تعالى.

وعليه، كان على ابن طفيل أن يجيب عن تساؤلين رئيسين: التساؤل الأول: كيف وجد الإنسان؟ ثم كان عليه أن يجيب عن السؤال الثاني: كيف تطور وعي هذا الموجود الإنساني، حتى أمكنه أن يدرك الوجود وموجده تعالى، وفي نهاية المطاف يتصلُ به وتتحققُ له لذةُ المشاهدةِ والمكاشفة؟

استنادًا إلى ذلك، سنقسمُ تأويلنَا لفلسفة تطور الوعي الإنساني، عند ابن طفيل، إلى المحورين الرئيسين الآتيين:

أولًا: نظريتانِ لتفسير نشأة الإنسان/حيّ بن يَقْظَان.

ثانيًا: مراحل تطور الوعي الإنساني لحيّ بن يَقْظَان.

ثمَّ نختتمُ رحلتَنا التأويليةَ مع ابن طُفَيْل بخاتمةٍ: خلاصة تأويلية عامة لفلسفة تطور الوعي الإنساني عنده.

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نبدأُ رحلتَنا التأويليةَ مع فلسفة ابن طفيل: ابن طُفَيْل وكتابه “حيُّ بن يَقْظَان”: تطور الوعي الإنساني: من الحس إلى العقل إلى الحَدْس: رحلة العقل نحو الله (2): نشأة الإنسان/حيُّ بن يَقْظَان.

اقرأ أيضاً: 

الجزء الأول، الجزء الثاني، الجزء الثالث، الجزء الرابع، الجزء الخامس

الجزء السادس، الجزء السابع، الجزء الثامن، الجزء التاسع، الجزء العاشر

الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر، الجزء الثالث عشر

الجزء الرابع عشر ، الجزء الخامس عشر، الجزء السادس عشر

الجزء السابع عشر، الجزء الثامن عشر، الجزء التاسع عشر

الجزء العشرون، الجزء الواحد والعشرون، الجزء الثاني والعشرون

 الجزء الثالث والعشرون، الجزء الرابع والعشرون، الجزء الخامس والعشرون

الجزء السادس والعشرون، الجزء السابع والعشرون

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج