أندلسيات .. الجزء السادس
قلت إن مؤرخينا –فيما تعلق بقضية الموريسكيين– كانوا كمن سكت دهرًا ونطق كفرًا. الأصل في المؤرخ أن يبني أحكامه على وثائق، ولما كانت وثائق محكمة التفتيش بالإسبانية، وكذلك وثائق البيع والشراء والمعاملات بين الموريسكيين (لأن السلطات أعلنت أنها لن تعتد بأي عقد يحرر بلغة غير الإسبانية)، فكان من الضروري أن يتعلم الباحثون هذه اللغة، أو أن يطالبوا الجهات الحكومية وغيرها بترجمة الوثائق.
لكن بعض مؤرخينا –دون أساس علمي– راحوا يكيلون الاتهامات إلى محاكم التفتيش، ويقولون إنها كانت تعدم المسلمين بالمئات في الشوارع، ثم راحوا يحدثوننا عن أوروبا الحاقدة على الإسلام التي تآمرت على الموريسكيين.
عناصر المجتمع الإسباني
تعالوا نتأمل عناصر المجتمع الإسباني آنذاك حتى نفهم أبعاد القضية:
- الملك: وهو لا يعنيه كثيرًا أن يكون من بين رعاياه بضعة آلاف لا يدينون بدين الغالبية.
- النبلاء: وهم لا يعنيهم من قريب أو من بعيد أن يتحول الموريسكيون إلى مسيحيين، هناك وثيقة تقول إن أحد النبلاء بنى مسجدًا للموريسكيين في أرضه.
- الكنيسة: هي الجهة الوحيدة تقريبًا التي كان يهمها موضوع التنصير.
- العامة: وهؤلاء لا حول لهم ولا قوة، ولا مصلحة لهم في تنصير الموريسكيين، تقول الوثائق إن بعضهم كانوا يساعدون الموريسكيين على التخفي من أعين محاكم التفتيش.
هذا يعني ببساطة أن المجتمع الإسباني لم يكن على قلب رجل واحد، أي أن الموريسكيين لم يكونوا يواجهون المجتمع الإسباني كله.
إعدام الموريسكيين
علينا الآن أن نطرح سؤالًا: هل كان الإسبان يعدمون الموريسكيين بالمئات؟ أولًا لم يكن هناك من له مصلحة خاصة في إعدام الموريسكيين، من ناحية أخرى فإن الجهة الوحيدة التي كانت مهمتها المحافظة على العقيدة الكاثوليكية كانت الكنيسة، ولم تكن الكنيسة –لأسباب تتعلق بطبيعة عملها– تصدر أحكامًا بالإعدام، بل بإحالة القضية إلى السلطة المدنية، فهي الجهة الوحيدة التي تصدر أحكام الإعدام، أما محكمة التفتيش فكان همها الأكبر الحصول على أموال الموريسكيين، وكان ذلك يدفعها إلى إطالة أمد التقاضي.
علينا أن نضع في الاعتبار أن النبلاء كانوا يبذلون ما في وسعهم لمساعدة الموريسكيين، فهؤلاء كانوا عبارة عن أيدي عاملة رخيصة، يعملون في مزارع النبلاء ويتقاضون أجورًا زهيدة، وعليه كان الموريسكي يشكّل أحد مصادر الدخل للنبلاء، فهل من المعقول أن يقتل الإنسان مصدر دخله؟ إذن فقد كان الموريسكي يجد العون من النبلاء، وكان يجد العون من اليهود أيضًا، وهو موضوع الغد بإذن الله.
معاناة اليهود في إسبانيا الكاثوليكية
بالحديث عن اليهود، من الخطأ أن نظن أن محاكم التفتيش كانت تعمل ضد المسلمين وحدهم، بل الأكثر من ذلك أن هذه المحاكم لم تنشأ من أجل المسلمين أصلًا.
عانى اليهود في إسبانيا الكاثوليكية أكثر مما عانى المسلمون، يكفي أن نعرف أن اليهود طردوا من إسبانيا في نفس عام سقوط غرناطة، حين كان المسلمون يتمتعون بلائحة المدجنين التي تبيح لهم أداء الشعائر والاحتكام إلى شريعتهم الإسلامية.
خرج اليهود من إسبانيا مطرودين في عام 1492، وتفرقوا في بلاد العالم المختلفة، خاصة المغرب وتركيا والبرتغال. خاضت إسبانيا عدة حروب في القرن السادس عشر أدت إلى احتياجها إلى أموال، ولم يكن هناك بد من السماح لليهود بالعودة حلًا للمشكلة. كان أمام عودتهم عائق قانوني، إذ كان القانون يمنع دخول اليهود إلى إسبانيا، لكن هذا العائق تغلبوا عليه بحيلة قديمة جديدة (التلاعب بالألفاظ): من الآن فصاعدًا سيطلق لقب “برتغالي” على اليهودي الذي يعود إلى إسبانيا، ذلك أن معظم المطرودين اليهود كانوا يقيمون في البرتغال، كانت العائلة اليهودية الواحدة موزعة بين إسبانيا والمغرب، ودول أخرى.
ماضي إسبانيا بمكيالين .. يهودي ومسلم
استغل اليهود ذلك الوضع لمصلحتهم، وكوّنوا شبكات مالية متعددة الجنسيات تعمل في المغرب وإسبانيا، يقول شاعرنا العربي “إن المصائب يجمعن المصابينا”، وهذا ما حدث بالضبط في إسبانيا الكاثوليكية، فقد جمعت المصائب بين الموريسكيين واليهود (وجمعت أيضًا بين الموريسكيين والغجر، وهذا موضوع آخر).
كان القانون يسمح “للبرتغاليين” بالدخول إلى إسبانيا والخروج منها ومعهم أموالهم، كما كان يسمح لهم بالبيع والشراء، إزاء تعنّت السلطات مع الموريسكيين، وعدم السماح لهم بحمل أموال وهم يغادرون إسبانيا، استغل اليهود الوضع، وعقدوا اتفاقًا غريبًا مع الموريسكيين: يبيع الموريسكي ممتلكاته في غرناطة لأحد اليهود بنصف الثمن تقريبًا، مقابل إيصال، ثم يغادر إسبانيا ويتوجه إلى فاس. هناك في فاس يسلّم الإيصال إلى يهودي آخر ويتسلم الثمن.
هكذا استطاع الموريسكيون إنقاذ ما يمكن إنقاذه، أخرجوا بعض أموالهم من إسبانيا بمساعدة اليهود، وحصل اليهود على أرباح طائلة بعد أن اشتروا أملاك المسلمين بثمن بخس، إذًا لم تكن ظروف الموريسكيين كلها سيئة، بل كانت بعض فئات المجتمع تخفف عنهم محنتهم.
تحدثنا عن النبلاء وعن اليهود، وحديثنا الآن عن الغجر.
الغجر في إسبانيا
كلنا يعرف ديوان لوركا، شاعر غرناطة العظيم، الذي نشره تحت عنوان “قصائد غجرية” (Romancero gitano)، الديوان كله يتحدث عن الغجر ومآسيهم وأساطيرهم، ليس فيه شيء خلاف ذلك.
الشيء الغريب أن لوركا يقول في مقدمة الديوان “أردت أن أخرج إلى الضوء بعض البنات المسلمات اللاتي كن يلعبن في هذه الشوارع، شوارع غرناطة”، ويحتار المرء، فليس في الديوان مسلمات، أين الحقيقة إذًا؟
يدفعنا البحث إلى القرن السادس عشر، حين أرادت السلطات الكنسية أن تراقب أداء الموريسكيين للصلوات المسيحية، ومواظبتهم على حضور الوعظ في الكنائس، فكانوا يسجلون أمام اسم الشخص ما يفيد أنه حضر أو تغيّب، وكان من يتغيب يدفع غرامة مالية، ويكلف بأداء صلوات أخرى، كان كل موريسكي يجتهد في الإفلات من حضور الوعظ: بعضهم كان يتصنع السّعال المتواصل حتى يطرده القسيس، وبعضهم كان يلجأ إلى حيل أخرى.
من بين الحيل التي لجأ إليها بعض الموريسكيين كان الانضمام إلى الغجر وحياة الترحال، لم تكن الكنيسة تراقب الغجر، لأسباب كثيرة منها عدم استقرارهم في مكان واحد، لذلك فإن انضمام الموريسكي إلى الغجر كان يعني تحرره من مراقبة الكنيسة، على أن الموريسكي الذي انضم إلى الغجر أضاف إليهم أغنياته وموسيقاه، لهذا فإن موسيقى الفلامنكو إنما هي أحد آثار انضمام الموريسكيين إلى الغجر، وفيها أثر أندلسي واضح.
بقاء بعض المسلمين بإسبانيا
ذات مرة، اشتركت في مؤتمر عن لوركا، وألقيت محاضرة عن الموضوع، وقال لي الأستاذ خيل غريماو إنه سيرد على محاضرتي في اليوم التالي، وقد فعل الرجل، وحكى أنه ذات يوم كان مع شاب غجري في حي البيازين، وعرف منه أنه مسلم أبًا عن جد، وأنه من نسل الموريسكيين الذين لم يغادروا إسبانيا.
إذًا فقد كان لوركا يعني ما يقول، لأن الحديث عن برثيوسا الغجرية يشير أيضًا إلى عائشة الموريسكية، لم يكن المشهد الموريسكي إذًا مظلمًا تمامًا، بعد أن تحدثنا الوثائق عن دعم النبلاء واليهود والغجر لهم، هذا في الداخل، أما في الخارج فهو الموضوع القادم.
مقالات ذات صلة:
الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال
الجزء الثالث من المقال، الجزء الرابع من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا