قضايا وجودية - مقالاتمقالات

العقل ومدارس الفلسفة الإسلامية .. الجزء الثامن عشر

المدرسة المشَّائية: (16) ابن سينا: الشيخ الرئيس وكتابه الشفاء

فلسفة الوجود السينوية: (6) وجود النفس: لا ماديتها وخلودها

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (ج 17) عن وجود العناية والشر في العالم. ولنواصل –في هذه الدردشة– مقاربتَنا التأويليةَ لفلسفة الوجود السينوية: وجود النفس: لا ماديتها وخلودها.

ثانيًا: وجود النفس: لا ماديتها وخلودها:

أ. علم النفس الفلسفي السينوي

ربما جاز لنا أن نقول إن ابن سينا مؤسس علم النفس الفلسفي في العالم الإسلامي. ويقول ابن سينا بوجود النفس الفردية، وتجردها، ولا ماديتها، ويقول ببقائها بعد فراق الجسد.

ب. لا مادية النفس وتجردها: النفس جوهرٌ روحيٌ قائمٌ بذاته مدركٌ للكليات

ليستِ النفسُ ماديةً، كما ذهب الماديون قديمًا وحديثًا، فليست متحيزةً أو حالّةً في متحيز، لأنها لا تنقسم بانقسام الجسم ولا تتوقف عليه، ولو كانت كذلك لما استطاعت أن تدرك الكليات.

ليست النفس صورة الجسم فقط، كما ذهب أرسطو، فأضاف الشيخ الرئيس بأنها جوهر قائم بذاته، فهي في آن واحد: جوهرٌ وصورةٌ. فالنفس جوهر قائم بذاته، لكنها ليست أي جوهر، بل “جوهر رُوحي قائم بذاته مدرك للمعقولات الكلية”. وهي صورة الجسم من حيث صلتها به فقط في أثناء وجودها مع البدن.

إن النفس –كما يقول الشيخ الرئيس–: “جوهرٌ قائمٌ بذاته، مغاير للجسم ومتميز عنه كل التمييز، مدرك للمعقولات والمعاني الكلية، وجوهر هذا شأنه لا يمكن أن يكون جسمًا ولا قائمًا بجسم، ذلك لأن النفس هي التي تجردُ الكلياتِ عن الكم والأين والوضع وتستخلصها من الجزئيات، فلا يمكن أن تضعها في حيز جديد، ولن يصيرَ الكليُ كليًا، ولا المعقولُ معقولًا بالفعل إلا إذا أصبح بعيدًا عن عوارض المادة. إن النفسَ تدركُ ذاتَها وتدركُ إدراكَها، ولا تستطيع حاسةٌ ما من حواسنا أن تحس نفسَها ولا إحساسها ولا العضو الذي يوصل لها هذا الإحساس، وكذلك المخيلةُ لا تتخيل ذاتَها ولا فعلَها ولا آلتَها، وإنما تتخيلُ أمرًا خارجًا عن كل ذلك، وإذن النفس الناطقة من طبيعة غير طبيعة هذه القوى الحسية”.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

اقرأ أيضاً: هواجس النفس وسمومها

ج. وجود النفس واستمرارها وخلودها

الفلسفة السينوية

تتمايز النفس عن البدن، ولا تموت النفس بموته، ولا تقبل الفساد أصلًا. وقد أقام ابن سينا عدة براهين –أغلبها مبتكرة عبقرية– على وجود النفس وتمايزها عن البدن، واستمرارها، وخلودها، منها:

برهان الإدراك:

تبدو علينا آثارٌ لا يمكن تفسيرُها إلا إذا سلمنا بوجود النفس، وأهمها –عند ابن سينا– الإدراك: أنا أدرك، وأدرك إدراكي، وأدرك أنني أدرك إدراكي، والحواس لا تدرك أنها تدرك، ولا تدرك أنها لا تدرك إدراكها. فالإدراك –أو التفكير– خاصةُ النفسِ الملازمةُ لها، لهو دليل على وجودها مستقلة عن البدن، فما دامت النفس تفكر فهي موجودة.

برهان أنا هُوية ثابتة:

إن الإنسان عندما يتحدث عن شخصه فإنما يعني بذلك النفس لا الجسم، فعندما تقول “أنا” لا تقصد رجلك أو يدك بل تقصد حقيقتك وتمام شخصيتك. إن الإنسان إذا كان منهمكًا في أمر من الأمور فإنه يكون غافلًا عن جميع أجزاء بدنه، والمعلوم بالفعل (أي النفس) غير ما هو مغفول عنه (أي البدن) فذات الإنسان مغايرة للبدن.

برهان الاستمرار:

يقول ابن سينا لك –أيها العاقل–: “تأمل في أنك اليوم في نفسك هو الذي كان موجودًا في جميع عمرك حتى أنك تتذكر كثيرًا مما جرى من أحوالك، فأنت إذن ثابت مستمر لا شك في ذلك، وبدنك وأجزاؤك ليس ثابتًا مستمرًا، بل هو أبدًا في التحلل والانتقاص. ولهذا لو حُبس عن الإنسان الغذاءُ مدةً قليلةً نزل وانتقص قريب من ربع بدنه. فتعلم نفسك أن في مدة عشرين سنة لمْ يبقَ شيءٌ من أجزاء بدنك، وأنت تعلم بقاء ذاتك في هذه المدة، بل جميع عمرك، فذاتك مغايرة لهذا البدن وأجزائه الظاهرة والباطنة”.

برهان الرجل الطائر أو المعلق في الفضاء:

يقول ابن سينا في أروع براهينه ابتكارًا وعبقريةً: “يجب أن يتوهمَ الواحدُ منا كأنه خُلق دفعةً وخُلق كاملًا، لكن حجب بصره من مشاهدة الخارجات، وخلق يهوي في هواء أو خلاء هَويًا لا يصدمه فيه قوامُ الهواء صدمًا يحوج إلى أن يحس، وفرق بين أعضائه فلم تتلاقَ ولمِ تتماسْ، ثم يتأمل أنه هل يثبت وجود ذاته، فلا يشك في إثباته لذاته موجودًا، ولا يثبت مع ذلك طرفًا من أعضائه ولا باطنًا من أحشائه ولا قلبًا ولا دماغًا ولا شيئًا من الأشياء من خارج، بل كان يثبت ذاته ولا يثبت لها طولًا ولا عرضًا ولا عمقًا، ولو أنه أمكنه في تلك الحال أن يتخيل يدًا أو عضوًا آخر لم يتخيله جزءًا من ذاته ولا شرطًا في ذاته. وأنت تعلم أن المثبَت (النفس) غير الذي لم يثبت (البدن)، والمقرَّ به (النفس) غير الذي لم يقر به (البدن). فإذن للذات التي أثبت وجودها خاصية لها، على أنها هو بعينه غير جسمه وأعضائه التي لم تثبت”.

برهان الانفصال:

إن النفس لا تموت بموت البدن، لأن كل شيء يفسد بفساد شيء آخر ينبغي أن يكون متعلقًا به نوعًا من التعلق، والنفس منفصلة في وجودها عن البدن، إذ لا يمكن أن تكون متعلقةً به تعلق المقرن له في الوجود بعد أن قررنا أنها جوهر قائم بذاته، وليست متعلقة به تعلق اللاحق له في الوجود (أي بعد وجود البدن) لأن هذه التبعية تستلزم أن تكون النفس معلولة للبدن، ولا يمكن أن نتصورَ هنا أيةَ صورةٍ من صور العلّية، ولمْ يبقَ إلا أن تكونَ العلاقةُ بين النفس والبدن علاقةَ السابقِ في الوجود، فالنفسُ سابقةٌ والجسمُ لاحقٌ. فسواء لدى النفس إذن أبقيَ الجسم أم فنيَ، لأن صلتها به ليست صلةَ ارتباطٍ وتلازمٍ، بل صلة سيد بمسود وآمر بمأمور.

برهان البساطة:

يطور ابن سينا برهان البساطة الوارد في محاورة “فيدون” لأفلاطون، فيقول: “إن النفس جوهرٌ بسيط ٌ، والأشياءُ البسيطةُ غيرُ المركبةِ لا تفسد، ولا تنعدم متى وجدت، لأن الأشياءَ القابلةَ للفساد لا بد أن تكون فيها جانبُ فعلٍ وقوةٍ، وهذا مُحالٌ في البسائط. إذن ثبت أن النفس جوهرٌ بسيط فلا يمكن أن يكون فيها استعدادٌ للفناء ولا أن تقبل الفناءَ بحالٍ”.

د. تطهير النفس

الفلسفة السينوية كما قال الشيخ الرئيس: “إن مجيئنا إلى هذا العالم لم يكن باختيارنا وإرادتنا، لكن جئنا وبالقهرِ نمكثُ، وبالقهرِ نخرجُ، وإنما جئنا بها للتمحيصِ والتطهيرِ، ليمحصَ اللهُ الذين آمنوا ويمحق الكافرين، وطهارة النفس إنما تكون بالعمل الشرعي والعلم الإلهي”. هكذا ينتهي ابن سينا –في مسألة النفس– إلى لقاء العقل بالوحي والعرفان.

خلاصة تأويلية لعلم النفس الفلسفي السينوي

يجب التفرقة بين علم النفس الفلسفي العقلي وبين علم النفس التجريبي المعاصر، فالأول مجاله الفلسفة العقلية، والثاني ميدانه العلم التجريبي. وعليه، لا يجب مقارنة علم النفس السينوي الروحي العقلي، بعلم النفس الحديث المادي التجريبي. وفيما يتعلق بعلم النفس الفلسفي السينوي فإن تأويلي المقترحَ يقولُ: إن الشيخَ الرئيس استمد يقينَه بالخلودِ من مصدرٍ أسمى من العقل، وحاولَ أن يقيمَ عليه الأدلةَ العقليةَ فإن عجزتْ لغتُه العقليةُ أحيانًا عن التعبير البرهاني اليقيني، فإنها لمْ تعجزْ عن التعبيرِ الدقيقِ والواضحِ عنه، فكان بحق من أنصار المذهب الرُوحي المخلصين.

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نواصل رحلتنا التأويلية مع فلسفة الوجود السينوية: وجود النبوة: إثباتها ودورها الحضاري.

اقرأ أيضاً: 

الجزء الأول ، الجزء الثاني، الجزء الثالث

الجزء الرابع، الجزء الخامس، الجزء السادس 

الجزء السابع، الجزء الثامن، الجزء التاسع

الجزء العاشر ، الجزء الحادي عشر، الجزء الثاني عشر

الجزء الثالث عشر، الجزء الرابع عشر ،الجزء الخامس عشر

الجزء السادس عشر ، الجزء السابع عشر 

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

_________________________________

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج