قناة السويس.. ما يعنينا ولا نفهمه!
منذ 66 سنة في هذا التوقيت الديسمبري، قصير النهار طويل الليل (23/12)، قام المصريون في مدينة بورسعيد بتحطيم تمثال فرديناند ديليسبس (ت/1894م)، الذي كان واقفًا على لسان قناة السويس شامخًا بأنفه وأشياء أخرى، وكان السبب في تعرض مدينتهم وكثير من مدن القناة لهجمات مروعة بالغة الشراسة.
استشهد من أبنائهم المئات، إضافة إلى من أصيبوا وتهدمت بيوتهم ونزحوا بعيدًا، وعانوا معاناة قاسية للغاية، بسبب قرار تأميم قناة السويس، وإلغاء الاتفاق الذي كان سينتهي امتيازه تلقائيًا بعد 13 سنة (1969م)!
أي بعد هزيمة 5 يونيو 1967م بسنتين، وموت المشير عامر، وزير الحربية وقتها، ووقت التأميم ووقت هزيمة 1956م أيضًا، وكذلك وهو الأهم بعد أغنية السيدة أم كلثوم الشهيرة “فات الميعاد”، وأغنية السيد عبد الحليم “عدى النهار”، بسنتين كاملتين.
أسباب الحروب ودوافعها
يقولون “إن النسيان يشفي من كل شيء، وأن الغناء هو خير وسائل النسيان، لأن الإنسان لا يتذكر في الغناء إلا قلبه”، هكذا قال إيفو أندريتش في قصة “جسر على نهر درينا”، وهو يصف أهل المدينة وهم جالسون على بقايا وحطام الجسر يسمعون الغناء، صوت الحياة التي كانت حياتهم.
كان هذا في الحرب العالمية الأولى (1914/1918م)، التي هي نموذج مثالي في فن القص واللصق لصنع حرب لا ضرورة لها في ذاتها، لكن لصنع تاريخ جديد وخرائط جديدة، كما شهدنا فعلًا بعدها بطول وعرض الكرة الأرضية، وكما فهمنا من قصيدة الشاعر الأمريكي الشهير إليوت ت/1965م، “الأرض الخراب”.
يستمر طويلًا نهج صنع الحروب، صغيرة وكبيرة، إقليمية وعالمية، مثل حرب السويس 1956م، وحرب يونيو 1967م، كانت حروبًا لا ضرورة لها، وهي مثل حرب إيران والعراق 1979م، وأخيرًا حرب أوكرانيا، والتي هي نموذج أكثر تفردًا في المكر واللباقة والقتل والدهشة والعمى والصمم.
قرار تأميم قناة السويس
قناة السويس كانت هناك دائمًا، في الأولى كان التأميم، إذ يتخذ الزعيم الخالد قرارًا منفردًا بـتأميم القناة دون الرجوع إلى أي مؤسسة من مؤسسات الدولة العريقة، كما يذكر لنا المؤرخ الأكاديمي المتميز د/ خالد فهمي، منتبهًا ومنبهًا لنا إلى ما سيتبع هذه الحالة من الانفرادية القاتلة بأهم القرارات وأخطرها من الكوارث سريعة التوالد، وبما لا يطل على أي أمل في المستقبل، وقد كان!
ستحضر قناة االسويس مرة ثانية في الهلاك الستيني الثاني 1967م، وتُغلق المضايق وتُمنع إسرائيل من العبور عبرها، وهي التي كانت هناك منذ سنة 1956م، وتُطرد قوات الأمم المتحدة الموجودة من نفس السنة.
حدث هذا كله أيضًا كما قال لنا د/ خالد فهمي في حلقاته الهامة “الهزيمة المستمرة” دون الرجوع إلى أي من مؤسسات الدولة وأجهزتها المعنية بالقرارات الكبرى، وما قرار الحرب إلا أكبر قرارات الأمم والأوطان.
سياسة علاقات أصحاب المصالح
الخمسينيات والستينيات في العالم كله، كانت أوقاتًا هامة جدًا لرعاية وتنامي واستدامة مصالح هامة جدًا، تخص جهات خطيرة جدًا، ومجهولة جدًا، جهات ليس لها بناء محدد، لكنها شبكة مصالح وعلاقات معقدة تتوالد وتتوارث وتتوالى وتتواصل بذاتها لذاتها، وليس الحرب فقط أهم أدواتها، بل يساويها الإعلام والميديا بكل درجات السلم التأثيري.
المخرج الأمريكي فرانسيس كوبولا (83 سنة) مخرج الفيلم الشهير جدًا “الأب الروحي” حاول أن يلفت نظر البشرية في الفيلم إلى هذا الذي يحدث بعيدًا هناك، ولا نرى منه إلا ما يحدث حوالينا وبين أيدينا وعلى وقع خطانا وظلال أجسادنا.
ستتنوع أشكال الحروب، وسنرى إضافة إلى الحروب التقليدية حروبًا أخرى تختلف في المقدمات والأشكال، لكنها تتشابه في النتائج والمؤخرات، وليس مؤخرة كورونا إلا نموذجًا قريبًا من ذلك، إذ بدا كأن أحدهم أغلق “الزرار” فجأة ذات مساء وأنهاها، ثم ذهب إلى الشرفة يسترخي ويدخن سيجارًا طويلًا مثل سيجار الأستاذ هيكل، صاحب أشهر كتاب بالمناسبة عن حرب السويس “هزيمة 1956م”.
العلاقة بين القدر والإرادة؟
الحاصل أن كل ما حدث ويحدث وسيحدث إن شاء الله، ما هو إلا في إطار محدد بدقة متناهية، لن نفهمها ولن ندرك مرامها لأننا لا نملك أدوات فهمها وإدراكها وتفسيرها، فهي خارج ما نستطيعه ونقدر عليه.
فما نستطيعه ونقدر عليه فقط أن نكون صالحين عاملين عارفين محسنين.
نحن وإرادتنا جزء ضئيل للغاية مما يجري في الكون من مشيئة الله وقدره، المفكر والعلامة علي عزت بيجوفيتش (ت/2003م) رحمه الله رحمة واسعة، قال لنا في كتابه الهام “الإسلام بين الشرق والغرب”:
“كم هي محدودة تلك التي نسميها إرادتنا، وكم هو هائل وغير محدود قَدَرُنا، علينا أن نتقبل المكان والزمان اللذين أحاطا بميلادنا ومماتنا، فالزمان والمكان هو قدر الله وإرادته”.
الذي قال هذا الكلام رجل عاش ما يقرب من ثمانين عامًا، عاشها حياة رائعة بكل ما تحمله الحياة من تفتح وتجدد وعطاء ومعنى وغاية، وكل ما تحمله الروعة من شرف وقيمة ومجد وبهاء وصمود.
جوهر الإنسان
هذا بالضبط ما يجب أن يكون من كل من أسلم وجهه لله في سكينة وحب ويقين، وصدق خالص وإيمان عذب، فالإيمان فعليًا وحرفيًا يختزل كل الحكاية، ليشرق النور بصحوه فوق أسرار المجهول، موقنين أن القلب لا يضل سبيله أبدًا إذا صفا واقترب، وأراد هو وصاحبه أن يكون ربانيًا، يعرف ماذا أراد الله منه، ولا يتعطل بسؤال جهول عن ماذا أراد الله به.
مرتلًا بقلبه وعقله وروحه من سورة آل عمران “رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ” (191)، موقنين أن مكانتنا عند الله عظيمة، فقد أكرمنا ربنا الكريم سبحانه وفضّلنا على كثير من خلقه، وأخبرنا أنه يحبنا إذا أحببناه، سبحانه وتعالى علوًا كبيرًا.
الفطرة بالفعل أهدى من العقل كما توصل إلى ذلك المفكر الفرنسي الأشهر روسو (ت/ 1778 م)، وستظل صحيحة ما بقيت الفطرة وما بقي العقل، والاثنان بغض النظر عن ترتيب أهميتهما هما بالفعل جوهر الشرط الإنساني، ولن يبقى للإنسان من بعدها إلا الصورة الماثلة، على أنه ليس ثمة تنافس كبير بينهما، لاختلاف حضورهما في وعي الإنسان بنفسه.
لماذا رفض محمد علي فكرة حفر قناة السويس؟
لكن ما علاقة كل هذا بديلسبس، وقناة السويس؟
تقول الحكاية من أول ركوب التاكسي، أن محمد علي باشا مؤسس مصر الحديثة (ت/ 1849م) كان له نصيب كبير من الاثنين، فطرة وعقل.
سنجد أن كل ما حذِره وخاف منه بالفطرة، كان أكثر ما سبّب بالغ الأضرار لمصر من بعده، بل لقد كان السبب المباشر في احتلالها لثمانين سنة.
أيضًا كان سببًا في كل ما ترتب على هذا الاحتلال من كوارث تسلسلت معقودة الحلقات كل حلقة تصنع أختها، في سلسال تاريخي به من البساطة والبداهة ما يفتح باب الاتهام على اتساعه، ليقف على أعتابه كل من شارك في صنع هذا التاريخ.
اهتدى الباشا بفطرته الاستراتيجية وفقًا لذلك كله إلى الضرورة الاستراتيجية لغلق أي باب من تلك الأبواب التي قد يأتي منها ريح الخطر، فرفض حفر قناة السويس ورفض الاقتراض من البنوك الأوروبية.
أقام مشروعه الاستراتيجي الضخم في أم الدنيا بأموال مصرية خالصة، وترك خزانة الدولة وبها ما يقرب من 90 مليون فرنك.
سعيد باشا يمنح ديليسبس امتياز حفر قناة السويس
يأتي محمد سعيد باشا (ت/1863م) إلى الحكم، ويستمر تسع سنوات من 1854 م الى 1863م ليفتح أخطر بوابات ريح الخطر، التي طالما حذِرها وحذَر منها الباشا والاستراتيجي الكبير والده، ليدشن أول علاقة بائسة للاقتصاد المصري بالديون، والتي تمتد إلى يومنا هذا، ليس هذا فقط بل ويمنح صديقه فرديناند امتياز حفر قناة السويس، التي فعلت بالمصريين في تاريخهم الحديث كل ما فعلت.
لكنها قطعة من ذات أنفسنا، شئنا أم أبينا، فطينها وماؤها وضفافها وشطآنها، من عظام ودماء أجدادنا، وهي كثيرة، كثيرة جدًا، في حفرها كثيرة وفي القتال بسببها كثيرة.
هي لذلك عزيزة، وعزيزة جدًا، بما لا يمكن وصفه من قول ولا تشبيه، إنها ليست مجرى لماء.. إنها مجرى لدماء، وإنها لدماؤنا.
مقالات ذات صلة:
بريطانيا وإعادة هيكلة الاقتصاد المصري
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
_________________________________
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا