أخلاقيات الاتصال بين عصري الإعلام التقليدي والرقمي: التباينات.. الإشكاليات.. الحلول
الجزء الثاني
في هذا الجزء من سلسلة مقالاتنا، التي تسعى لوضع تصور لكيفية مجابهة الإشكاليات الأخلاقية التي حملها الإعلام الجديد مقارنة بالإعلام التقليدي، نتلمس التباينات التي أصابت بنية الإعلام الجديد مقارنة ببنية الإعلام التقليدي، وأثر تلك التباينات في خلق تحديات أخلاقية جديدة، لا محيص من التصدي لها من قبل مجتمعنا العربي إن أراد الحفاظ على هويته وقيمه، التي يهددها هذا الطوفان الإعلامي في مقتل.
التباينات بين بنيتي الإعلامين التقليدي والجديد
رغم أن بنية العملية الاتصالية ومكوناتها الرئيسة تظل هي المصدر أو المرسل، والرسالة، والوسيلة والمتلقي، والأثر الناجم عن عملية الاتصال تلك، ورغم أن أشكالها الطبيعية لا زالت –وستظل– قائمة مثل الاتصال الذاتي والشخصي والجمعي ثم الجماهيري، والاتصال المباشر وغير المباشر، والاتصال اللفظي وغير اللفظي، والتزامني واللا تزامني، رغم أن كل أنواع الاتصال هذه لا تزال وستظل قائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإن التطورات التي شهدتها وتشهدها أدوات الاتصال عبر الفضاء الإلكتروني خلقت تغيّرات حاسمة في بنية وأشكال الاتصال تلك، على نحو جعلها تبتلع كل وسائل وتقنيات الاتصال التقليدية، وكل أنواع الجمهور وكل أشكال الاتصال.
من حيث التواصل
بل وتبتلع قواعد اللعبة الاتصالية كلها، فأصبح يتداخل فيها الاتصال الشخصي مع الجمعي مع الجماهيري، وأصبح المرسل مستقبلًا والمستقبل مرسلًا في الآن نفسه، وتغيّرت فيها شروط امتلاك وسيلة اتصال جماهيري عابرة للحدود، واندمجت فيها الوسائط واختفت فيها الشروط التقنية المعقدة والمكلِّفة، التي لا بد أن تمتلكها وسيلة ما حتى تستطيع أن تحقق رسائلها التأثير الذي تصبو إليه.
من حيث إنتاج البيانات
تغيرت شروط إنتاج الرسالة، فلم تعد ثمة حتمية لأن تُنتج عبر بنى مؤسسية ضخمة تمتلك فريقًا إعلاميًا متكاملًا ينتج صحفًا تحتاج مطابع عملاقة ذات تكلفة باهظة، ولا حتمية لإنشاء قناة تليفزيونية تمتلك فريقًا ضخمًا، من مذيعين ومعدين ومصورين ومنتجين ومخرجين وغيرها من المهن التي يتطلبها إنتاج مادة إعلامية مرئية، حتى يتسنى لها تصوير رسالة ذات طابع جماهيري مؤثر، بل أصبحت تكفي كاميرا هاتف محمول زهيد الثمن ليبدأ عبرها البث المباشر لأي حدث والتعليق عليه لكل الدنيا، كما يبث عبرها مواد زاخرة بالمعلومات والأفكار والآراء في كل مجالات الحياة، وهي المواد التي كان إنتاجها مهمة جلل تحتاج إلى مؤسسات ذات إمكانيات تقنية وبشرية ضخمة.
لا يعني هذا بالطبع أن الفضاء الإلكتروني الذي أتاح هذا النوع من الإعلام، والذي نطلق عليه الإعلام الجديد قد ألغى الحاجة إلى المؤسسات الإعلامية التقليدية من صحف وإذاعات وتليفزيونات، وذلك لكون هذه المؤسسات تظل هي الوحيدة القادرة على أن تغطي –عبر مراسليها– في توقيت واحد الأحداث الهامة التي تتم في دولة كاملة، أو حتى في عدة دول مجتمعة، وهو ما لا يمكن لشخص أو مجموعة أشخاص لا رابط بينهم عبر كاميرات هواتفهم، أو غيرها من آليات البث أن يحققوه، لا سيما في الأمور الرسمية التي تتعلق بمجريات إدارة شؤون الدول والمجتمعات.
من حيث الانتشار
غير أن إشكالية لا يمكن إنكارها خلفتها كثافة إنتاج المواد الإعلامية من قبل الأشخاص الناشطين اتصاليًا في هذا الفضاء، خاصة في الأحداث غير الرسمية، والتي تتمثل في كون ما يُبَث من قبلهم من محتوى مرئي أو مسموع أو مكتوب يفوق –في مجموعه– ما يُبث من قبل القنوات الاتصالية الكبرى، لا سيما ما يُبث من قبلهم حول مجريات الحياة اليومية.
خير دليل على ذلك إحصائيات جوجل التي تقول إن منصة اليوتيوب وحدها فيها أكثر من 120 مليار فيديو يُشاهد منها يوميًا 4 مليارات فيديو، كما أن عدد الفيديوهات التي ترفع يوميًا إلى الموقع تقدر بنحو 200 ألف من قبل ما يقارب 300 مليون مستخدم للموقع، وهذا موقع واحد من عدة تُرفع الفديوهات عليها مثل “الفيس بوك، والتيك توك، وتويتر، والإنستجرام”، ناهيك بباقي أشكال المحتوى الإعلامي الذي يبث على تلك المواقع، أو غيرها من المنصات التي أتاحها الفضاء الرقمي اللا نهائي.
من حيث الدقة
كما أن تلقائية هذا البث وتحرر مضامينه من قيود التحكم أو الأدلجة، ناهيك بتحرر مشاهديه من الالتزام بالتزامنية –كما هو حال المواد التي تبثها القنوات المسموعة أو المرئية التقليدية– ثم بساطة عرضه، وتنوع مواده اللا نهائي، جعل تلك المواد التي يحملها هذا البث تستحوذ على الجزء الأعظم من كعكة المشاهدين، التي كانت تستأثر بها وسائل الإعلام التقليدية كلها إلى أمد قريب.
حتى المواد التي تتعلق بالرأي، والتي كان يتطلب إنتاجها –ولا زال– في قنوات الاتصال التقليدية إمكانات وإعدادات تقنية ضخمة، ومعدّين، ومقدمين، وضيوف خبراء، ومصورين، ومخرجين يتمتعون بقدر عالٍ من الاحترافية، حتى هذه المواد أضحى أمر صناعتها وبثها متاحًا لكل شخص عبر كاميرا هاتفه، وإذا ما امتلك هذا الشخص القدرة على طرح رأي سديد ذي مصداقية فيما يتناوله من قضايا، قد يصبح له جمهور –ربما بالملايين– على نحو يفوق بكثير جمهور جل القنوات الفضائية التي تنفق على إنتاج موادها أموالًا طائلة.
التفاعل مع الجمهور في الإعلام الرقمي
الأمر الذي حدا بكثير من المشاهير والخبراء والمثقفين أن ينتجوا بأنفسهم محتوى مرئيًا يطرحون فيه رؤاهم على منصات التواصل الاجتماعي، بالتوازي مع ما يطرحونه عبر الفضائيات، أو ربما بدلًا منها، وهو الأمر الذي مكنهم من التفاعل المباشر والفوري مع جماهيرهم، بشتى أشكال التفاعل التي تتيحها هذه المنصات.
بل إن أكثر المشاهدات التي تحققها المواد التي تبثها وسائل الإعلام المرئية التقليدية، تنالها من خلال إعادة بثها على حساباتها على منصات التواصل الاجتماعي، لكونها تتحرر حينها من إشكالية المزامنة بين العرض والتعرض.
في ظل هذا الزخم والتزاحم بين الوسائل الإعلامية، التي أتاحها الفضاء الرقمي على نحو خلق أمام المرسِل والمتلقي معًا قنوات اتصالية لا تحصى، كان من الطبيعي أن تحدث ظاهرة تشظي الجمهور (Fragmentation)، على نحو جعل إمكانية جذب وسيلة ما من وسائل الاتصال التقليدية لجمهور عريض يتابع كل ما تبثه أمرًا عسيرًا، مهما كانت جودة محتواها.
مستقبل الإعلام التقليدي في ظل فاعلية الإعلام الجديد
ما يعني أننا حتى لو استطعنا مجابهة مضامين وسائل الإعلام الجديد غير المرغوب فيها –أو غير الأخلاقية– عبر بناء وسائل إعلامية تقليدية ذات رسائل فائقة الجودة والمهنية، ومهما أُنفق عليها، لن تنال من كعكة الجمهور إلا النذر اليسير، وذلك لكون الإعلام الجديد يتيح للجمهور –بمختلف أطيافه– محتويات لا محدودة تقدم له ما يهفو أن يتعرض له، ولا تفرض عليه أو تختار له مطلقًا ما ينبغي أن يتعرض له، الأمر الذي جعل وسائل الإعلام التقليدية أن تكون أداة تستخدمها الدول –لا سيما في المجتمعات النامية– لتثقيف وتنوير شعوبها على نحو يحقق مصالحهم العليا، أملًا بعيد المنال.
بل إن ظهور وسائل الإعلام الجديد غيّر طبيعة المتلقي ذاتها، وهنا يثور تساؤلان هامّان، ألا وهما: كيف تحقق هذا التغير؟ وما هي ملامح ذلك التغير؟
هذا ما سنجيب عليه بمشيئة الله تعالى في المقال التالي من هذه السلسلة.
مقالات ذات صلة:
في الصحافة والإعلام توجد قاعدة تقول
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا