العُنْفُ المُقَدَّسُ – الجزء السادس
عَلَاقَةُ العَامِلِ بِاللهِ بَيْنَ الخَوْفِ والشُّهُوْدِ
سأنطلق في إيضاحي لهذه النقطة من حديث نبوي شريف يتناول طريقتين لعبادة الله يمثلانِ في تصوري ما أريد إيضاحه هنا، إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلّم، مُفرِّقًا بين شكلينِ من العبادة في حديث جبريل المعروف، وبالأخص في فقرته التي تتكلم عن الإحسان إذ قال: “أنْ تعبد الله كأنك تراه فإنْ لم تكن تراه فإنّه يراك”.
إنّ عبادة الله “كأنك تراه”، هي عبادة المشاهدة لله والمحبة المؤسَّسة على الحضور الدائم لله في وعي العامل بوصفه سبحانه محبوبًا مسعيًّا إليه، وهي عبادة تختلف عن عبادة “أنه يراك”، فهذه الأخيرة عبادة مؤسَّسة على خوف العامل من رؤية الله، أكثر منها مؤسَّسةً على سعي العامل إليه سبحانه محبةً كما في العبادة الأولى، فالجهة المؤسِّسة للعبادة الأولى هي “المشاهدة”، والجهة المؤسِّسة للعبادة الثانية هي “الخوف”.
الفرق بين حب الله والخوف منه
هذا الاختلاف بين الجهتين يجعل لله في وعي العامل صفتينِ في الحضور، إذ إنّ صفة حضور الله في وعي الممتثل للأمر بالدخول في الفعل، تتحقق بوصفه سبحانه آمرًا مرهوبًا أكثر منه مشهودًا محبوبًا، ومن ثم تكون العلاقة بين الله والعامل في بداية العمل الشرعي أوقع في دائرة الخوف، ومعنى صفة حضوره سبحانه بوصفه آمرًا في وعي العامل، هو أن أطراف هذه العلاقة ستتحدّد بحسب هذه الصفة فتصير أطرافها: الآمر وهو الله، والمأمور وهو العامل، والأمر وهو العمل الشرعي الذي يمثل موضع تنفيذ الأمر، وسوف نعرف لاحقًا أثر ذلك التحديد بـ”الأمرية” لأطراف العلاقة على سلوك العامل لطفًا وعنفًا.
في المقابل تكون صفة حضوره سبحانه في وعي العامل المتخلّق بالفعل في السلوك، متحققةً بوصفه سبحانه مشهودًا محبوبًا أكثر منه آمرًا مرهوبًا، ومن ثم تكون العلاقة بين الله والعامل في طور التخلق بالعمل أوقع في دائرة الحب، ومعنى صفة حضوره سبحانه بوصفه مشهودًا محبوبًا في وعي العامل، هو أن أطراف هذه العلاقة ستتحدّد بحسب هذه الصفة، فتصير أطرافها: المشهود أو المحبوب وهو الله، والشاهِد أو المُحِبُّ وهو العامل، وموضع الحب أو الشهود وهو العمل الشرعي.
عبادة الله لا تتم إلا بالحب والخوف والرجاء
إن كلامي هذا لا يعني أن الداخل في العمل مقطوع الصلة عن الله بوصفه محبوبًا أو أن المتخلق بالعمل مقطوع الصلة عن الله بوصفه مخوفًا، بقدر ما يشير إلى أن الله بوصفه آمرًا مخوفًا، هو المؤسس لبقية صفات الله الأخرى في علاقة الداخل في العمل مع الله، وفي المقابل الله بوصفه مشهودًا محبوبًا هو المؤسس لبقية صفات الله الأخرى في علاقة المتخلق بالعمل مع الله، ومعنى “تأسيسيّة” الصفة لبقية الصفات أنها تصبغها بصبغتها، ودليل ذلك نجده في صفة “الخوف” الثابتة لكل الداخلين في العمل، إلا أنها عند المتخلّقين بالعمل الذين تقوم علاقتهم بالله على الشهود والمحبة تصطبغ بـ”المحبة”، فيصير الخوفُ هيبةً، إذ إن المحبة هي الصفة المؤسِّسة عند هذا الفريق لبقية الصفات الأخرى.
اقرأ أيضاً: الإله بين الرؤية الجبرية والتفويض الكلي للإنسان
شَكْلُ عَلَاقَةِ العَامِلِ بِاللهِ وَأَثَرُهَا عَلَى سُلُوْكِهِ لُطْفًا وَعُنْفًا
إذا كنا عرفنا سابقًا أن علاقة العامل بالله تتردد بين الخوف والشهود، فإن تجلية أثر شكل هذه العلاقة على سلوك العامل لطفًا وعنفًا، يتحقق بمعرفة أن العامل بحكم طبيعته البشرية الضعيفة، لا يقوى على الوفاء بكامل حقَيْ العمل الشرعي المتمثلينِ في إقامته ظاهرًا والتخلق به رُوحًا، دفعةً واحدة دون ممارسة طويلة للعمل ومجاهدة مستمرة للنفس، وذلك للوفاء بحقَي العمل، خاصةً والعمل الشرعي يتسم بالعمق كما عرفنا سابقًا، الأمر الذي يعني أنه لا محيص للعامل –في ضوء محدودية قواه من جهة، وعمق العمل الشرعي وضخامته من جهة أخرى– عن أن تستغرقه في علاقته بالله إحدى الجهات التي تبدأ بـالخوف وما يسم به العلاقة من أمرية وتنتهي بـالشهود وما يسم به العلاقة من محبوبية.
فإذا ما استغرقت العاملَ جهةُ الخوف، فإن ذلك يعني أن الأولوية ستكون لإقامة الأمر ظاهرًا على التخلق به رُوحًا وصولًا إلى الآمر، بعبارة مختصرة ستكون الأولوية لـ”الأمر” على “الآمر”، ومعنى أولوية الأمر على الآمر، أن قُوى العامل مستغرَقة في تنفيذ ظاهر الأمر مقطوعة الصلة عن رُوحه تدبرًا في مقاصده وتخلقًا بقيمه.
أثر العبادة القائمة على الخوف
من ثم ينعكس هذا الاستغراق في ظاهر الأمر على العامل على أكثر من صعيد:
أولًا: على صعيد عقل العامل، فتجد أنه يتسم بالضيق، فيأتي موقفه من الأمر لا يعرف خيارًا، وسوف نرى عند ذكر المثال من السنة النبوية مصداق ذلك.
ثانيًا: على صعيد نظره للآخر الذي يوقع عليه هذا الأمر أحيانًا، فينظر إلى الآخر نظرًا يُغيّبه، بمعنى أنه يتجاهل ظروف مَنْ يُوقع عليه الأمر وسياقه، وهو ما يسم سلوك هذا العامل بـالعنف الذي يأخذ درجات، تبدأ بـالتشدّد الذي يتجلى في الفظاظة والغلظة التي يكون عليها العامل المستغرق في ظاهر الأمر أثناء ممارسته الدينية، تلك الغلظة التي تنبع من استغراقه في الأمرية وتفضي به إلى تغييب الآخر إنسانيًا، أي عدم الاكتراث به وبخلفياته، ويتطور إلى التطرف في الأقوال، الذي يقوم على تغييب النصوص في تكاملها عن طريق اقتطاعها من سياقها وحملها على ما يخدم وجهته، وصولًا إلى الإرهاب حيث الفتك بالخصوم على مرأى ومسمع من الناس دون أي اعتبار لروابط إنسانية.
الخيط الجامع لكل هذه الممارسات هو “التغييب” للآخر، سواء أكان نصًا أم واقعًا أم إنسانًا وعدم الاكتراث به، وذلك لاستغراقه في ظاهر الأمر المقطوع الصلة عن روحه المتجسدة في معانيه وقيمه.
كأن الله –في العمق– يعاقب هذا المستغرِق في ظاهر الأمر، على قطْعه الصلةَ بين ظاهر الأمر وروحه، بأنْ حرم اللهُ بصرَه التوفيقَ في مقاربة الأمر سواء على صعيد معاملة الآخر أو على صعيد قراءة النص والواقع.
اقرأ أيضاً: مقام الحيرة
أثر العبادة القائمة على الحب والخوف معا
في المقابل إذا ما تعمقت علاقة العامل بالله من خلال تخلّقه بالعمل سلوكًا وتشرّبتْ رُوحُه مقاصده وقيمه فهمًا وإدراكًا، فإن جهة الشهود تصير هي المسيطرة على العامل في علاقته بالله، وهو ما ينعكس على سلوكه رفقًا في امتثال الأمر والنهي، وإحكامًا وعمقًا في النظر إلى الآخر الذي يمثّل في بعض الأحيان موضع تنفيذ الأمر.
تراه ينظر في حال الآخر الذي يمثل موضعَ تنفيذ الأمر أحيانًا معتبِرًا ظروفَه وسياقَه اعتبارَه لضرورة تنفيذ الأمر، وسرُّ ذلك أنه يشاهد الله محبوبًا فيما يفعل، فيأتي تدبيره للأمر عميقًا موسومًا بحسن التنفيذ له وحسن التقدير لعواقبه.
ما يسمو بسلوك هذا العامل إلى “لُطف الدين”، ومن ثم يكون بعيدًا عن الوقوع في إيذاء العنف، إذ إن دوام تخلُّقه بمعاني الأسماء والصفات المبثوثة في الأوامر والأفعال الشرعية، يقف حائلًا بينه وبين هذا العنف.
أهمية فهم الحكمة من الأمر والنهي الإلهي
إن كلامي الأخير هنا لا يؤسس لفوضى في التعامل مع الأوامر والنواهي الإلهية ليفعل مَنْ شاء ما شاء، لا سمح الله، بقدر ما هو دعوة للتبّصر في الأمر والنهي والتخلق بقيمهما والتحقق بمعانيهما، عند مَنْ ظنّ أنه التزم الأمر، حتى لا يقع هذا المُلتزِم في عكس ما أراد هو وأراد شارع الأمر والنهي سبحانه، إذ إن التبّصر في الأمر والنهي الإلهي، بمعنى تعمق النظر في النص منبع الأمر وتعمق النظر في الواقع موضع تنفيذ الأمر، وما يستتبعه ذلك التعمّق من تخلّق، أقول: إن هذا التبّصر هو أقوى الطرق في نفي أخطر أنواع العنف وأكثرها فتكًا بالإنسان، ذلك العنف الذي يقع تحت غطاء القداسة الإلهية، وسر خطورته أنه لا يمكن لصاحبه أن يعود عنه متى ما أُشرب قلبُه مقدماتِه التي أسعى إلى تفصيلها هنا، ولذلك سمّيتُه “عُنفًا مقدَّسًا”.
بهذا نكون تكلمنا عن شكل علاقة العامل بالله وأثرها على سلوكه لطفًا وعنفًا، ويبقى لنا أن نتناول شكل علاقة العامل بالعمل وأثرها على سلوكه عنفًا ولطفًا، لنكون أحطنا بالأسباب العميقة لاختلاف وقع العمل في نفوس الطائعين وما يستتبعه ذلك الاختلاف لوقعه من لطف وعنف.
وعليه فالقادم هو شكل علاقة العامل بالعمل وأثرها على سلوكه لطفًا وعنفًا.
مقالات ذات صلة:
الجزء الأول من المقال، الجزء الثاني من المقال
الجزء الثالث من المقال، الجزء الرابع من المقال
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا