في الثامن والعشرين من أغسطس سنة 1963، ألقى الزعيم والناشط السياسي الأمريكي من أصول إفريقية “مارتن لوثر كينج” (Martin Luther King 1929 – 1968) أشهر خطاب له، بل وأشهر خطابٍ في التاريخ الأمريكي وربما الغربي الحديث، تحت عنوان “لديّ حُلم” (I Have a Dream)، أمام أكثر من مائتين وخمسين ألف شخص جاءوا إلى واشنطن من أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية خلال معركة الأمريكيين السود للاعتراف بحقوقهم، وحُفرت العبارة على درج نُصب “لنكولن التذكاري” الذي ألقى الخطاب في ساحته، إذ أنشد الحضور أغنية “سننتصر” (We shall overcome).
كان العام 1963 هو الذكرى المئوية لإعلان تحرير العبيد، إذ أصدر الرئيس الأمريكي آنذاك “أبراهام لينكولن” (Abraham Lincoln 1809 – 1865) إعلان تحرير العبيد الأفارقة في الولايات المتحدة في الأول من يناير سنة 1863. وبعد مرور قرن من إلغاء العبودية، تبين أن كثرةً من الأمريكيين السود ما زالوا عبيدًا في كثير من النواحي، لذا جاء خطاب “كينج” بمثابة صرخة قوية من أجل المساواة العرقية، ومن أجل عالم أكثر عدلًا ومساواة، يكون فيه الأمريكيون الأفارقة، وغيرهم من ذوي البشرة السمراء، أحرارًا مثل غيرهم من البيض الذين استعبدوهم!
وفقًا للسياسي الأمريكي وزعيم الحقوق المدنية “جون لويس” (John Lewis 1940 – 2020)، الذي تحدث أيضًا في ذلك اليوم كونه رئيسًا للجنة التنسيق الطلابية اللا عنفية (Student Nonviolent Coordinating Committee)، كانت لدى “كينج” القوة والقدرة على تحويل تلك الخطوات على درج نصب لنكولن التذكاري إلى مشهد سياسي وحقوقي ثابتٍ ومُلهم في سجلات التاريخ الأمريكي، ولم يخبر فقط أولئك الذين شهدوا الحدث وشاركوا في صنعه، بل أخبر الناس في جميع أنحاء العالم، وكذلك الأجيال التي لم تولد بعد، بأن ثمة من انتُهكت حقوقهم فوق أرض الأحلام!
من جهة أخرى، تعكس الأفكار الواردة في الخطاب تجارب “لوثر كينج” الاجتماعية، في المعاناة من الإساءة العرقية وإساءة المعاملة واستغلال السود. كما يستحضر الخطاب أسطورة أمريكا كدولة تأسست لتوفير الحرية والعدالة لجميع الناس، ثم يعزز ويتجاوز تلك الأسطورة العلمانية بوضعها في سياقٍ روحي عبَّر عنه بالإشارة إلى أن العدالة العرقية تتوافق أيضًا مع إرادة الله. ويصف “كينج” الوعود التي قطعتها أمريكا على نفسها بأنها “سند بنكي” تخلفت أمريكا عن الوفاء به: لقد أصدرت أمريكا للزنوج “شيكًا سيئًا”، وقد جئنا هنا في واشنطن العاصمة لصرف هذا الشيك!
من أبرز ما جاء في خطابه تلك الكلمات التي اخترقت القلوب والعقول:
“دعونا لا نغرق في وادي اليأس، أقول لكم اليوم يا أصدقائي: على الرغم من أننا نواجه صعوبات اليوم وغدًا، لا يزال لدَّي حُلمٌ، إنه حُلمٌ متجذر بعمق في الحلم الأمريكي.
لديّ حُلم بأن تستيقظ هذه الأمة وتُطبق بالفعل، في يومٍ ما، العقيدة التي تؤمن بها، تلك القائلة إن البشر جميعًا متساوون.
لديّ حُلم بأنه في يومٍ ما، على تلال جورجيا الحمراء، سيتمكن أبناء العبيد من الجلوس مع أبناء أسياد العبيد على منضدة الإخاء.
لدي حلم بأنه في يوم ما، ستتحول حتى ولاية ميسيسيبي، الولاية التي تختنق بلهيب الظلم، وتُكابد حرارة القمع، سوف تتحول في يومٍ ما إلى واحة للحرية والعدالة.
لديّ حُلم بأنه في يومٍ ما سيعيش أطفالي الأربعة في أمة لا يُحكم فيها على الفرد من لون بشرته، بل من مضمون شخصيته.
لدي حلم بأنه في يومٍ ما، في ولاية ألاباما، تلك التي تموج بالعنصريين الأشرار، ويتربع على قمتها حاكمٌ تتقاطر من شفتيه الأوامر والنواهي، ستتشابك أيدي الصبيان والبنات السود مع أيدي الصبيان والبنات البيض كإخوان وأخوات.
لديّ حُلم بأنه في يومٍ ما سوف يرتفع كل وادٍ، وينخفض كل تلٍ وجبل، وستصبح الأماكن الوعرة سهلة، وتستقيم المُعوجة، ويتكشف مجد الرب ويراه البشر جميعًا.
هذا هو أملنا، وبهذا الإيمان سوف نكون قادرين على شق جبل اليأس بصخرة الأمل، بهذا الإيمان سوف نكون قادرين على تحويل أصوات الفتنة إلى لحنٍ جميل من الإخاء، بهذا الإيمان سوف نكون قادرين على العمل معًا، والصلاة معًا، والكفاح معًا، والذهاب إلى السجون معًا، والوقوف من أجل الحرية معًا، مدركين أننا سوف نكون يومًا ما أحرارًا.
لندع أجراس الحرية تدق، وعندما يحدث ذلك، عندما ندع أجراس الحرية تدق من كل قرية، ومن كل ولاية، ومن كل مدينة، سيكون قد اقترب هذا اليوم الذي يكون فيه كل الأطفال الذين خلقهم الله: السود والبيض، اليهود وغير اليهود، الكاثوليك والبروتستانت، قد أصبحوا قادرين على أن تتشابك أيديهم وينشدون كلمات أغنية الزنجي الروحية القديمة: أحرارٌ في النهاية! أحرارٌ في النهاية! شكرًا يا رب العالمين، نحن أحرار في النهاية!
أقول لكم اليوم يا أصدقائي أنه على الرغم من الصعوبات التي نواجهها اليوم، والتي سنواجهها في الأيام المقبلة، لديّ حُلم!”.
في أعقاب الخطاب، تم اختيار “كينج” رجل العام من قبل مجلة تايم لسنة 1963، وفي سنة 1964 كان أصغر رجل يحصل على جائزة نوبل للسلام. وفي الرابع من أبريل سنة 1968 اغتيل “مارتن لوثر كينج”، هذا هو قدر من ينشد الحرية والعدالة والكرامة في عالم تزعجه هذه الكلمات، وكُتب على مقبرته: “حرٌ في النهاية! حرٌ في النهاية! الحمد لله رب العالمين، أنا حر في النهاية!”.
لم يظهر خطاب “كينج” مكتوبًا كاملًا حتى أغسطس سنة 1983، بعد نحو خمسة عشر عامًا من وفاته، حين قامت صحيفة واشنطن بوست بنشره على إحدى صفحاتها. وفي سنة 2002، أضافت مكتبة الكونغرس خطاب “كينج” إلى السجل الوطني للتسجيلات. وفي سنة 2003، دشنت إدارة المنتزهات الوطنية بالولايات المتحدة قاعدةً رخامية منقوشة لإحياء ذكرى موقع الخطاب في نصب لنكولن التذكاري. وبالقرب من “حوض بوتوماك” (Potomac Basin) في واشنطن العاصمة، تم بناء نصبٍ تذكاري لـ”كينج” سنة 2011. وفي الثامن والعشرين من أغسطس سنة 2013، تجمع الآلاف في المركز التجاري في واشنطن العاصمة، إذ ألقى “كينج” خطابه التاريخي، للاحتفال بالذكرى الخمسين لهذه المناسبة. وحضر هذه الفعالية ثلاثة رؤساء سابقين للولايات المتحدة، هم بيل كلينتون وجيمي كارتر وباراك أوباما، إذ خاطبوا الحشد وتحدثوا عن أهمية الحدث. وفي سنة 2017، تم الكشف عن تمثال “مارتن لوثر كينج” على أرض مبنى الكابيتول بولاية جورجيا في الذكرى الرابعة والخمسين للخطاب.
كان “مارتن لوثر كينج” لديه حُلم، وما زالت أمريكا تقتل الحُلم بأشكالٍ مختلفة. وأنا أيضًا، وأنت عزيزي القارئ، لدينا حُلم، حُلم بأن ترفرف فوق ربوع عالمنا العربي قيم الحرية والعدالة والمساواة والمحبة، حُلمٌ بأن نفيق من سُباتنا الحضاري الطويل، أن نتعلم ونُعلم ونبني لأجيالٍ ستُحاكم يومًا من قتلوا فينا الحُلم، ومن عجزوا أيضًا عن الحُلم، إنه الحُلم الذي يؤرقنا جميعًا، فهل سنعيش تحققه؟ أم ننتظر حتى يُكتب على قبورنا: أحرارٌ في النهاية؟!
مقالات ذات صلة:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*********
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا