قضايا شبابية - مقالاتمقالات

في البدء كان سطر الأوامر

هل فوجئت يومًا بأن نظام التشغيل لهاتفك أو حاسوبك لا يقبل التحديث، لأن الشركة المُنتجة قد أوقفت دعم إصدارٍ ما زال يعمل، لكي تحثَّ عملاءها على شراء إصدار جديد أكثر كفاءة وأشد جذبًا وإشباعًا لحاجات المستخدمين؟

هل تساءلت يومًا عن طبيعة العلاقة التي تربط بينك وبين هاتفك أو حاسوبك أو أي جهازٍ إلكتروني آخر تمتلكه؟

هل هي علاقة عاطفية قوامها المظهر والتباهي؟ أم علاقة عقلانية قوامها الحاجة ونمط الاستخدام؟

هل فكرت يومًا في كيفية عمل هاتفك أو حاسوبك؟ وما الذي يحدث حين تقوم بالضغط على أيقونة أحد البرامج؟ أو ما هي التفاصيل الفنية الدقيقة التي تتوارى خلف تلك الواجهات الرسومية التي تتعامل معها؟

كاتب الخيال العلمي “نيل ستيفنسون”

هذا ما يُناقشه كاتب الخيال الأمريكي نيل ستيفنسون (Neal Stephenson) من مواليد سنة 1959، في مقالٍ له تحت عنوان: “في البدء كان سطر الأوامر” (In the Beginning was the Command Line)، نُشر أولًا على أحد المواقع الإلكترونية سنة 1999، ثم أتيح ككتاب في السنة ذاتها.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فيه يُقدم عرضًا تاريخيًّا لمجموعة من أنظمة التشغيل، لا سيما تلك التي أنتجتها الشركتان المهيمنتان: مايكروسوفت (Microsoft) وآبل (Apple)، بالإضافة إلى البدائل المعروفة مثل لينكس (Linux) وبي أو إس (BeOS).

كما يسعى في المقال ذاته إلى تفسير سبب عدم احتمال بقاء أنظمة التشغيل الاحتكارية مُربحةً في المستقبل في معية المنافسة الشرسة، ويُحلل الثقافة الجمعية للشركات الكبرى العاملة في مجال البرمجيات الحرة.

بيل غيتس وستيف جوبز

في البداية يعود بنا ستيفنسون إلى سبعينات القرن العشرين، إذ توصل رجل الأعمال الأمريكي، ورئيس مجلس إدارة شركة آبل (Apple) ستيف جوبز (ستيفن بول جوبز Steven Paul Jobs) 1955– 2011م، بمشاركة مهندس الإلكترونيات والمبرمج ورجل الأعمال الأمريكي ستيف وزنياك (ستيفن جاري وزنياك Stephen Gary Wozniak) من مواليد سنة 1955، إلى فكرة غريبة للغاية، تتمثل في بيع آلات معالجة المعلومات (Information Processing Machines) لاستخدامها في المنازل.

بالفعل انطلق العمل على تنفيذ الفكرة، وحقق مبتكراها أرباحًا هائلة، وتقديرًا يستحقانه لكونهما صاحبي رؤية جريئة.

في الوقت ذاته تقريبًا توصَّل رجل الأعمال والمبرمج الأمريكي بيل جيتس (وليام هنري جيتس الثالث William Henry Gates III) من مواليد سنة 1955، بمشاركة المبرمج ورجل الأعمال الأمريكي بول جاردنر ألين (Paul Gardner Allen) 1953– 2018م، إلى فكرة خيالية أعمق، وهي: بيع أنظمة تشغيل الحاسوب (Computer Operating Systems)!

بول ألين شريك كفاح بيل جيتس لتأسيس مايكروسوفت

أنظمة التشغيلكانت هذه الفكرة أكثر غرابة وإثارة، فالحواسيب أو آلات معالجة المعلومات لا تعدو أن تكون بنى مادية ملموسة، صناديق يمكن فتحها وتوصيلها بأدوات أخرى مساعدة ورؤية الأضواء تومض فيها، أما أنظمة التشغيل فليس لها أي تجسيد مادي ملموس على الإطلاق.

لقد تم وضعها على أقراص، لكن هذه الأقراص ليست أكثر من الصناديق التي تحوي نُظم التشغيل، لقد كان المنتج ذاته مجرد سلسلة طويلة جدًّا من الآحاد والأصفار التي إذا ما تم تثبيتها وترميزها بشكلٍ صحيح أعطتك القدرة على معالجة سلاسل أخرى طويلة من الآحاد والأصفار!

حتى أولئك القلة الذين فهموا في الواقع ما هو نظام تشغيل الحاسوب كانوا ميالين إلى التفكير فيه بوصفه معجزة هندسية غامضة، وليس شيئًا يمكن أن يتم تداوله كمنتج!

مع ذلك فإن الشركة التي أسسها بيل جيتس وبول ألين تبيع الآن أنظمة التشغيل مثلما تبيع شركة جيليت شفرات الحلاقة، ويتوالى إنتاجها للإصدارات الجديدة كما لو كانت نسخًا من أفلام هوليود، مصحوبةً بتفضيلات من المشاهير، وحوارات في البرامج الإعلامية، وجولات حول العالم، وثروات هائلة تُبررها الطبيعة الاحتكارية للمنتج المُبهم من قبل الشركة.

ما هو سطر الأوامر؟

من جهة أخرى يُعدُّ فهمنا لطبيعة عمل أنظمة التشغيل، وكيفية توثيق العلاقة الرومانسية التي تربطنا بها أمرًا أساسيًّا لأي نقاشٍ حول هذه الأنظمة، وحين يضع ستيفنسون عنوانًا مؤداه “في البدء كان سطر الأوامر”، فإنما يُشير إلى حقيقة أن جميع أجهزة الحاسوب تعمل وتؤدي مهامها من خلال كتابة رموز محددة في سطر الأوامر.

لكنَّ الغالبية العظمى من المستخدمين العاديين لا يعرفون عن سطر الأوامر شيئًا، بل يُصدرون أوامرهم للحاسوب من خلال النقر باستخدام الفأرة على أيقونات وقوائم منسدلة أو صور رسومية معينة، فلا يشعر المستخدم العادي مثلًا بالشفرة الأساسية التي تجعل برنامج مثل «وورد» Word يفتح مستندًا ما عندما يتم النقر على أيقونة صغيرة بها صورة ورقة!

و”سطر الأوامر” هو تلك النافذة السوداء المزودة بمؤشر يسطر المدخلات من خلال لوحة المفاتيح لينفذ الحاسوب ما نطلبه منه، ويمكن فتحُ نافذةِ سطرِ الأوامرِ على نظام ويندوز من (Start Menu) بكتابة (cmd).

مميزات واجهة المستخدم الرسومية

أما الواجهات الرسومية (Graphical User Interface) فهي تلك الصور والأشكال الهندسية التي تظهر لك حين تفتح الحاسوب، ويمكن بالنقر عليها فتح التطبيقات المختلفة باستخدام الفأرة.

تُعرف هذه الصور والأشكال الرسومية باسم النوافذ (Windows)، وبداخلها نجد قوائمَ وأيقوناتٍ وصورًا أخرى يمكن النقر عليها للتفاعل مع التطبيق وتنفيذ ما نريده.

ليس من الصعب أن نُخمِّن لماذا نجحت الواجهات الرسومية منذ ظهورها، وحلَّت محل تقنية سطر الأوامر، فاستعمالها سهل، ولا يتطلب خبرة أو معرفة كبيرة بالبرمجة مثل سطر الأوامر، كما أن جاذبيتها وسلاسة استعمالها مناسبة تمامًا لأعمال أي مستخدم عادي.

اقرأ أيضاً:

أيه هو مشروع الميتافيرس

الشركات العالمية والركض خلف السعادة!

نوع جديد من المخدرات

التفاعل بين الإنسان والحاسوب

لكن ستيفنسون يجادل بأننا سنكون أكثر قوة إذا فهمنا الكلمات والرموز الأساسية التي تتجلى في سطر الأوامر، والتي يُنفِّذ بها الحاسوب عملياته، تمامًا كما لو فهمنا كيف تعمل محركات سياراتنا وتقنياتها إلى جانب الاستمتاع بقيادتها وما تُوفره من رفاهيات.

لقد فصلت أنظمة التشغيل التجارية الأكثر شيوعًا –كتلك التي تُنتجها شركتا مايكروسوفت وآبل– مستخدمي الحاسوب عن تلك التفاصيل الدقيقة.

أو بالأحرى عن ذلك الوسيط الرقمي الذي يمكن لنا جميعًا أن نتعلم قراءته وكتابته، والذي يُضفي على النظام استقرارًا استثنائيًّا، لتبيع للناس نظامًا متغيرًا من الاستعارات، ما يعني أن هذه الأخيرة –أي الاستعارات– طريقة مُثلى للتعامل مع العالم وفهمه.

ليس ذلك فحسب، بل لقد أعادت الشركات المُنتجة بناء العلاقة التفاعلية بين الإنسان والحاسوب، لتُصبح علاقةً عاطفيةً لا تجعل من الحاسوب ونظام التشغيل مجرد وسيلة، بل غاية في ذاته!

المنافسة بين الشركات

أنظمة التشغيل آبل ومايكروسوفت

لتوضيح ذلك يضرب ستيفنسون مثالًا مثيرًا بالسيارات: تخيل مفترق طرق يوجد به أربعة وكلاء متنافسين للسيارات، أحدهم مايكروسوفت أكبر بكثير من الثلاثة الآخرين، وقد بدأ منذ بضعة عقود بيع سيارات ثلاثية العجلات –نظام التشغيل إم إس دوس (MS-DOS)–، صحيح أن السيارة لم تكن مثالية، لكنها نجحت، وكان من السهل إصلاحها إذا تعطلت أو تهشم جزء منها.

كان ثمة وكيل آخر منافس بجوار الوكيل الأول، آبل، بدأ في يومٍ مقارب بيع سيارات ذات تصميم أكثر جاذبية، مُحكمة الإغلاق ولا يظهر من أحشائها شيء، لكنها باهظة الثمن، وطريقة عملها غامضة!

كان رد فعل الوكيل الأكبر سريعًا، إذ أضاف إلى سيارته بعض الإمكانات الجديدة، لكنها لم تَرْقَ إلى مستوى السيارة المُحكمة المريحة للوكيل الثاني.

مع استمرار المنافسة واحتدامها خرج الوكيل الكبير بمركبة ضخمة للطرق الوعرة ويندوز إن تي (Windows New Technology): ستيشن واغن ضخمة، أتبعها بسيارة كاملة ويندوز 95 (Windows 95)، ذات سمات جمالية أكثر جاذبية، وبينما تمكَّن من الهيمنة على الجزء الأكبر من السوق، واصل الوكيل المجاور إنتاج وبيع سيارات السيدان ذات الطراز الأوروبي الرفيع، وإن لزبائن أقل!

بي إنك ولينكس

على الجانب الآخر من الطريق، كان ثمَّة منافسان ومتنافسان ظَهَرَا لاحقًا، الأول شركة بي إنك (Be Inc) يبيع السيارة الوطواط Batmobile، نظام التشغيل بي أو إس (BeOS).

إنها أكثر جمالًا وأناقة حتى من سيارات السيدان الأوروبية، وذات تصميم أفضل، وأكثر تقدمًا من الناحية التكنولوجية، وذات موثوقية مثل أي شيء آخر في السوق.

هي كذلك أرخص من معروضات كافة الوكلاء الآخرين، باستثناء واحد: لينكس (Linux)، الذي يقع في الجوار تمامًا، لكنه لا يمثل نشاطًا تجاريًّا، بل يُقدم مجموعة من المركبات الترفيهية المزودة بتكنولوجيا متطورة، والقابلة للتعديل والإضافة والقيادة من قبل أي شخص؛ نظام تشغيل حر ومفتوح المصدر.

البقاء للأقوى

يحتشد العملاء في مفترق الطرق على مدار اليوم، تسعون بالمائة منهم يذهبون مباشرة إلى الوكيل الأكبر لشراء سيارات ستيشن واغن أو مركبات الطرق الوعرة.

أما العشرة بالمائة الباقية فيذهب أغلبهم إلى الوكيل المجاور له لشراء سيارات أوروبية سيدان أنيقة، ويتوقفون فقط ليصعِّرون خدودهم لأولئك الذين يصطفون أمام الوكيل الأكبر.

على الجانب الآخر، يبيع الوكيل الثالث عددًا قليلًا من سيارات الوطواط، وهو قانع بدوره الهامشي في السوق، بينما يصطف على حافة الشارع أمام الوكيل الرابع عدد لا بأس به من المتطوعين الذين يحملون مكبرات الصوت في محاولة لجذب انتباه العملاء إلى المنتج الحر والقابل للتداول والتعديل!

عندما تتحول الوسيلة إلى غاية

أنظمة التشغيلهكذا تحولت الوسيلة إلى غاية، تمامًا كما تحول الهاتف المحمول من وسيلة للتواصل إلى غاية للتباهي، وكما تحولت كثرة من الأشياء في حياتنا، من مجرد كونها وسائل لقضاء حوائجنا إلى غايات نروم امتلاكها، تحت الضغط الإعلاني والمنافسة الحادة من قبل الشركات، بُغية تطوير منتجاتها وجذب الزبائن بكماليات ورفاهيات ليسوا غالبًا في حاجة إليها، وتفريغ جيوب الدَّهماء الذين باتوا عبيدًا للتكنولوجيا رغم اتساع الهُوَّة المعرفية بينهم وبينها بإخفاء سطر الأوامر!

صحيح أن العالم أصبح الآن مُعقدًا للغاية، وأننا كجمهور لا يمكننا التعامل مع كافة التفاصيل، ولا مناصَ لنا من الثقة في عددٍ من المبرمجين المجهولين لغربلة الخيارات، لإغلاق بعضها وإتاحة بعضها الآخر لنا.

لكن علينا ألا ننسى أن هؤلاء المبرمجين هم شعلة التعقيد منذ البداية، ووقود الاحتكارات التجارية، وأدوات الهيمنة الشاملة في الحاضر والمستقبل.

الأخطر من ذلك من المنظور الفلسفي هو فشل النُّخبة في الوفاء بوعد الرفاهية التكنولوجية، لقد سمحنا لهم بالركض بالكرة، واكتفينا بالاستمتاع بمهاراتهم، فأفسدوا وهيمنوا وحالوا بيننا وبين الكلمة، واحتكروا سطر الأوامر لأنفسهم!

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ. د. صلاح عثمان

أستاذ المنطق وفلسفة العلم – رئيس قسم الفلسفة – كلية الآداب – جامعة المنوفية