فن وأدب - مقالاتمقالات

نحو لغة أكاديمية مفهومة

من الأمور التي ترد على خاطري دومًا، ذلك الحديث السريع والخافت الذي أدرته ذات مرة مع بعض أساتذتي عن نفور القراء والمقبلين على المعرفة من مصطلحات الأكاديميين ولغتهم التي ينسجون منها عبارات جافة بلا روح، أو مستغلقة على الأفهام.

تساءلت يومها تساؤل تلميذ يريد أن يعرف لا أن يفرض رأيًا أو توجهًا، أو يبدي تبرمًا من مسلك ما في طرح الأفكار وتناول المعارف الإنسانية، وكان الرد موجزًا وقاطعًا من أغلبهم.

علوم إنسانية بلا إنسانية

دار جله حول ضرورة أن تكون لدينا لغة للبحث الأكاديمي، تختلف عن الكتابات الأخرى التي تفتقد إلى التحديد والصرامة التي يوجبهما العلم، ويجود بها علينا الكتاب الصحفيون والأدباء ومن لف لفهم،

حيث تختلط لدى الأغلبية منهم المفاهيم والمعاني وترتبك إلى أقصى حد، وأبعد مدى، وتقع أحيانًا خارج التفكير العلمي، الذي له شروط يتعارف عليها العلماء في مشارق الأرض ومغاربها.

استقبلت هذا الرأي باحترام يتناسب مع تقديري لمن أدلوا به، لكن ظل في نفسي شيء من عدم الارتياح له، راح ينمو بمرور الأيام وتوالي القراءات.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

إذ وجدت أن كثيرًا من الكتب التي أحدثت نقلة في حياة البشر، ونهضة في تاريخ الإنسانية، وتركت علامات قوية لا يمحوها الزمن، وظلت حية يتم تداولها رغم تقدم الزمان وتبدل الأمكنة، كانت مكتوبة بلغة فياضة، تشد النفس، وتوقظ المشاعر، في الوقت الذي تحفر في العقل معاني ومفاهيم وقيمًا عميقة.

كلما أوغلت راحلًا في صفحات هذه الكتب، ثار داخلي سؤال آخر حول جدوى أن تكون العلوم الإنسانية بلا إنسانية. أي لا تتعامل مع الإنسان بوصفه روحًا ومادة يزاوج بين العقل والمشاعر، ويحمل بين جنبيه إرادة الاختيار وملكة التذوق.

لماذا يجب على الأكاديميين استثمار خبراتهم خارج أسوار الجامعة؟

راح هذا التصور يكبر في نفسي رويدًا رويدًا حتى استقر في يقيني وبات اقتناعًا راسخًا، لا يحلق في فراغ، إنما ينبني على عدة معايير قابلة للزيادة، سواء لدي أو لدى كل من يميل إلى هذا الرأي.

الاشتباك مع قضايا المجتمع

الكتابة الأكاديمية

أولها أن طبيعة الأمور واستقامتها تفرض على الجامعات في كل مكان أن تشتبك مع قضايا المجتمع، ليس لتحقيق ما على عاتقها من دور تنموي فحسب، بل أيضًا لتعزيز قدراتها العلمية بتجديد مناهجها ونظرياتها.

النظريات الكبرى في العلوم الإنسانية انبثقت من الإمعان والتدقيق في سلوكيات البشر وحركاتهم وتصرفاتهم وأشواقهم وأحلامهم، التي يزخر بها الواقع المعيش.

التعبير عن الظواهر الإنسانية

ثانيها أن الظواهر الإنسانية متشابكة إلى أقصى حد، ولا يمكن الوقوف عليها وقوفًا صحيحًا إلا إذا تم تحليلها إلى عناصرها الأولية، أو تفكيكها إلى ما تنطوي عليه من مكونات سواء أساسية أم ثانوية.

من بين هذه العناصر والمكونات ما يتعلق بالجانب الروحي، الذي يفيض بالمعتقدات والمشاعر والإيمان بالرموز، وهذا الشق الإنساني لا يمكن التعبير عنه بلغة جافة تفتقد الحس وتفتقر إلى البساطة والوضوح.

الاقتراب إلى ثقافة القارئ

أما ثالثها فإن القارئ يتفاعل مع أي “نص” أو “مكتوب” ويفهمه ليس مثلما يريد صاحبه بالضبط، بل أيضًا بناء على ما تجود به ثقافة هذا القارئ وميوله وخلفيته التعليمية والطبقية والدينية، إذ ينتج هو نصه الخاص على هامش النص الأصلي.

هذا يجعل لدينا في نهاية المطاف نصوصًا أو أشباهها بعدد من قرؤوا ما هو مكتوب. بالتالي فإن الحديث عن صرامة لغوية في البحوث والدراسات الإنسانية أمر يحتاج إلى إعادة نظر.

مهما كانت هناك تدابير يتبعها الباحثون كي تخرج العبارات دقيقة لتصف الحالة أو الظاهرة كما ينبغي لها، فإن هذا لن يمنع القارئ من تلقي هذا الوصف بالطريقة التي تحلو له، ويتسع هذا التلقي وتزيد مساحة التأويل والتفسير والتخمين والتكهن كلما كان النص معقدًا وجافًا.

اقرأ أيضاً: أصناف أهل الكتابة

تعرف على: كيفية كتابة البحث العلمي

اقرأ أيضاً: ولا عزاء للبحث العلمي في وطني

البعد عن التعقيد في عرض الظاهرة

الرابع أن التعقيد لا يعني بالضرورة الضبط العلمي، كما أن سهولة العرض لا تعني في الوقت ذاته الخروج عن مسار العلم ومقتضياته.

كل ما في الأمر أن الباحث مطالب بألا يستعمل لغة عامة “حمالة أوجه”، أو عبارات إنشائية غارقة في البلاغة إلى الدرجة التي تلفت فيه الانتباه إلى ذاتها، وتصبح الكتابة لديه مجرد تشكيل جمالي للغة، لأن هذه مهمة الأدب وفنونه عمومًا وليس العلم.

ما هو مطلوب هنا أن تكون اللغة جلية ورشيقة ومنضبطة في آن، بحيث تعبر عن صميم الظاهرة، وترسم ملامحها بدقة، لكنها لا تنفر القارئ منها، ولا تجعله يشعر أن الباحث والدارس قد كتب ما كتبه لنفسه أو حفنة صغيرة من زملائه الأكاديميين داخل أسوار المعاهد والجامعات.

المعرفة غير مقتصرة على أفراد بعينهم

الكتابة الأكاديميةالسبب الخامس في نظري هو أن العلم يجب أن يروم التغيير وإلا تحول إلى سفسطة فارغة أو قلائد للزينة. قد يقول قائل إن هذا التغيير قد يكمن في صناعة التلاميذ بالمدارس والجامعات، وأن هذا يكفي في حد ذاته، ومن ثم لا حاجة لمد الأكاديميين أنوفهم خارج نطاق علمهم الأصلي.

لكن هذه رؤية قاصرة لا تتصل بالواقع المعيش على أي حال من الأحوال. الثابت أن أغلب تلاميذ العلم وطلابه تنقطع صلتهم بالدراسات الأكاديمية الصرف فور تخرجهم، إذ تأخذهم الحياة في دواماتها التي لا تنتهي،

حيث العمل والأسرة والأصحاب وأوقات الترفيه، وبعض هؤلاء، خاصة في مجتمعاتنا العربية، إن اتصلوا بعالم الكتب فإن اتصالهم ينصب على الكتب الثقافية والعلمية المبسطة.

من هنا فإن صياغة الدراسات الأكاديمية بلغة جذابة وأخاذة ومفهومة يساعد في اتساع رقعة من تربطهم صلات متينة بعالم الأفكار والمعلومات، وبالتالي يكبر حجم الكتلة الحية في الأمة، التي تنتجها تنمية إنسانية يقظة ودائمة.

إضافة إلى هذا فإن ذلك التبسط غير المخل بشروط العلم وكفاءته يسهم في إضافة مجموعات جديدة ممن تمكنوا من محو أميتهم إلى هذه الكتلة التي تؤمن بأن المعرفة سلطة وقوة، ليس للفرد فحسب، بل للمجتمع بأسره.

العلوم الإنسانية علوم نسبية

السبب السادس أنه لا يوجد حسم في العلم الإنساني بشتى فروعه، وهذه مسّلمة يقتنع بها الجميع، وما دام هذا الحسم غير موجود فإن الاحتجاج بضرورة جفاف اللغة وجفائها بدعوى الحفاظ على التقاليد الأكاديمية الصارمة، والتي يحتاجها السعي إلى الوصول إلى نتائج دقيقة، لا يقف على قدمين صلبتين.

العلوم التطبيقية أو البحتة نفسها تشهد تطورًا هي الأخرى، ونظرياتها التي يعتقد كثيرون أنها راسخة كالجبال الرواسي يأتي من يهزها من جذورها ويضيف إليها أو يسقطها.

نظريات إسحاق نيوتن هزها ألبرت أينشتاين بنظرية النسبية، ونحن نعيش اليوم مرحلة ما بعد أينشتاين، حيث تتم مراجعة بعض مقولاته ومعادلاته.

ضعف القدرات وقلة الموهبة

السبب السابع هو وجود أكاديميين كثر من ضعاف القدرات وقليلي الموهبة. ومثل هؤلاء يكتبون بلغة غير مفهومة لأنهم هم أنفسهم لا يفهمون جيدًا القضايا التي يكتبون عنها، ولا يلمون إلمامًا دقيقًا بالتخصصات التي ينصرف إليها تعلمهم واشتغالهم.

من المعروف أن من لا يفهم ليس بوسعه أن يُفهّم، وأن من يتبحر في علم ما أو تخصص معين يستطيع أن يعبر عنه بطريقة مفهومة تمامًا، وبلغة سهلة ومختصرة، فكما قال النفري: “إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”.

علاوة على هذا فإن بعض الأكاديميين يلجؤون إلى ترجمة دراسات وأبحاث ونصوص مكتوبة بلغات أجنبية من دون أن يفهموها على الوجه الأكمل، ومن ثم تأتي لغتهم ملتوية وغير منبسطة ومفككة، تبدو في بعض المواضع كأنها نوع من الهذيان.

حصار الكتابات العشوائية

الكتابة الأكاديمية

أما السبب الثامن فيتعلق بخطورة أن تترك ساحات ومساحات القراءة والاطلاع خارج الجامعة لكثير من الكتابات الهابطة والمبتذلة التي تبشر بالفوضى والخواء أو تعتمد على الغرائز، أو تتصف بالخطابة والإنشائية، وتخاصم المنهج العلمي في التفكير.

مثل هذا المنتج المعرفي قد يحتشد بالمعلومات المغلوطة، والأخطر من هذا، فإنه قد يعتمد على طرق تفكير معوجة أو غير علمية، وهذا الوضع يؤدي إلى زيادة تشوه العقل الجمعي للأمة، ولا يساعد الناس في أن يتعاملوا بطريقة ناجعة مع المشكلات الحياتية، سواء هذه التي تعترض طريقهم كأفراد، أو تلك التي تعوق تقدم المجتمع برمته.

حرص الأكاديميين الثقاة على أن يدفعوا بإنتاجهم العلمي إلى خارج أسوار الجامعة سيساعد -من دون شك- في حصار هذه الكتابات العشوائية، ومن ثم يحمي المواطنين منها.

زيادة الإنتاج المعرفي وتوفير عائد مادي

السبب التاسع هو أن اشتباك الأكاديميين مع المجتمع يشجعهم على الإنتاج المعرفي الغزير، لا سيما في جامعاتنا التي يتوقف جهد أغلب أساتذتها عند حدود تقديم أبحاث الترقي، وتصبح أطروحاتهم للدكتوراه هي أكبر وأهم بحث علمي في حياتهم.

الخروج إلى فضاء المجتمع الرحيب يمنح هؤلاء الأساتذة شهرة ومكانة، وقد يدر عليهم عائدًا ماديًا يساهم في بناء استقلالهم واستقامتهم العلمية، التي كثيرًا ما يجرحها العوز والاحتياج إلى ما في يد السلطة من منافع وعطايا.

لكل هذا استقر في يقيني ميل جارف إلى ضرورة أن يقفز الأكاديميون خارج أسوار جامعاتهم، وليقتصر قراء دراساتهم وأطروحاتهم المصاغة بلغة بحثية جافة على أعضاء لجان الترقي، وحاضري السيمينارات العلمية، ومناقشي الرسائل الجامعية.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. عمار علي حسن

روائي ومفكر مصري