مقالاتمنطق ومعرفة - مقالات

العقل والعِلّية .. الجزء الخامس

العلة الأولى-2- مبدأ استحالة التسلسل

تحدثنا –صديقي القارئ صديقتي القارئة– في الدردشة السابقة (العقل والعلية ج 4- العلة الأولى-1) عن شبهات الفيلسوفين الكبيرين راسل وسارتر، وفهمهما لقانون العلية، ذلك الفهم غير المؤسس على البرهان العقلي الفلسفي.

وفي هذه الدردشة نواصل الحديث حول مدى القصور الفلسفي المفاهيمي، عند فلاسفة الغرب بخصوص قانون العلية.

قصور المفاهيم الفلسفية في الغرب

إن كثيرًا من فلاسفة الغرب لم ينتبهوا إلى الوقوع في هذه المغالطة التي تنبه لها فلاسفةُ المسلمين، منذ المعلم الثاني أبو نصر الفارابي (260-339هـ)، والشيخ الرئيس ابن سينا (370-428 هـ)، وحتى فيلسوف الحكمة المتعالية ملا صدرا الشيرازي (979-1050 هـ) ومدرسته المستمرة إلى الآن.

إن فلاسفة الغرب الذين غمرهم طوفانُ الماديةِ قد قصرتْ عقولُهم عن كثير من المفاهيم الفلسفية التي أخذ بها العقلُ الفلسفيُ الإسلامي، الذي بيَّن لنا لماذا لا تتسلسل العللُ إلى ما لا نهاية، وأن لا بد لها أن تتوقف عند علةٍ تامةٍ بالذات، شكلت إجابةُ هذا السؤال برهانًا هو من مبتكرات الفلسفة الإسلامية في التدليل، هو:

برهان عدم تسلسل العلل إلى ما لا نهاية

الاستحالة العقلية للتسلسللو تسلسلتِ العللُ لا إلى نهاية لما وُجِدَ الكون! لكن الكون موجود. إذن العللُ قد توقفتْ عند علة أولى، هي التي أوجدت الكون. إذن السلسلة لم تكن لا نهائية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

خذ مثلًا يقرب لك هذه المسألة: لو أنك أردت أن تحصلَ على تصريحٍ لدخول مكانٍ ما. لكنك لن تتمكن من دخوله، إلا أن يصدر لك شخصٌ مسؤولٌ هذا التصريح. ولنفرض أن الذي يعطيك التصريح، يحتاج هو نفسه إلى تصريح ليأذن لك.

ولنفرض أن هذا الشخص الثالث يحتاج إلى تصريح ليأذن للثاني، ولنفرض أن هذا الشخص الثالث يحتاج إلى تصريح ليأذن له مسؤول رابع.

وهكذا لنفرض أن سلسلة الأشخاص المسؤولين عن إصدار التصريح تتصاعد بلا نهاية، فهل ستحصل أنت على التصريح؟ بالطبع لا، وأبدًا لن تحصل عليه، ذلك لأن سلسلة الأشخاص في تصاعد لا إلى نهاية.

ولكن إن دخلت هذا المكان فعلًا، فماذا يعني ذلك؟ يعني أنك حصلت على التصريح، ويعنى ذلك إذًا: أن السلسلة لم تكن لا نهائية، وإلا لما أمكنك أن تدخل أبدًا إلى المكان. وبما أن العالم موجود، فإذًا لا توجد عللٌ لا نهائية، وإلا لما تواجد الكون ولا تحقق العالم. وهذا برهان جلي على وجود علة أولى للعالم لا علة لها.

الرد على البرهان: هذا من طبيعة العقل!

حاول بعضُهم إسقاطَ هذا البرهان قائلًا: “لا يجب أن نثق في هذه النتيجة أبدًا، لأن العقل من طبيعته أن يؤسسَ من عند ذاته، ولطبيعة خلقته، كائنًا أعلى، وعلةً أولى لوجود العالم.

إذن لا يجب الإنصاتُ إلى مثل هذه الحجج، لأن طبيعتنا العقليةَ هي التي ترى الأشياء بهذا النحو. لقد خُلق العقلُ هكذا، وليس له إلا أن يتصورَ الأمرَ بهذا الشكل. العلة الأولى مسألة عقلية جدًا تفرضها طبيعةُ العقل”.

الرد على الرد: العقل ليست له طبيعة أتت معه!

إن سائر المعارف البشرية قد أتت من خلال الاطلاع على الواقع، ولا توجد في الذهن –كما يدعي الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650)– معارفُ أوليةٌ مخلوقةٌ معه.

اقرأ أيضاً:

الجزء الأول من المقال 

الجزء الثاني من المقال

الجزء الثالث من المقال

العلية من المفاهيم الحقيقية الانتزاعية

المفاهيم العقلية الفلسفية

والمفاهيم العقلية الفلسفية –حسب تقسيم الفلاسفة المسلمين المفاهيم إلى: حقيقية واقعية وحقيقية انتزاعية– هي انتزاعات من الواقع الخارجي، أي لم تكن موجودةً في الذهن، وإنما كشفَ عنها الواقعُ وحصل عليها عقلنا عن طريق التجريد والمقارنة.

انتزع العقل مفهوم العلية من ملاحظة الواقع الخارجي (النار والإحراق). فالعلية ليس لها ما بإزاء (يعني تحقق) في الخارج، ولكن لها منشأ انتزاع من الخارج الواقعي.

العلية من المعقولات الثانية الفلسفية

إن العلية –وفقًا لتقسيم الفلاسفة المسلمين للمعقولات– هي من المعقولات الثانية الفلسفية. حيث قسمَ الفلاسفةُ المسلمون المعقولاتِ، أو المفاهيمَ، إلى قسمين: المعقولات الأولى، والمعقولات الثانية.

المعقولات الأولى: هي المفاهيم الماهوية، أي سائر الكليات (إنسان، حيوان، سماء إلخ)، والمعقولات الثانية: تنقسم إلى قسمين: معقولات ثانية منطقية، (مثل كل مفاهيم علم المنطق: الكلي، الجزئي، الفصل، الجنس، إلخ)، ومعقولات ثانية فلسفية (مثل العلة والمعلول، الوجود والماهية، الواحد والكثير، إلخ).

وهذا التقسيم لم يعرفه فلاسفةُ الغرب، لا جون لوك (1632-1704)، ولا ديفيد هيوم (1711-1776)، ولا إيمانويل كانط (1724-1804) ولا فردريك هيجل (1770-1831)، ولا كارل ماركس (1818-1883)، بل أن فلاسفة الغرب قد خلطوا، ولم يميزوا، بين المعقولات الأولى والثانية.

الخلاصة:

انتهى الفلاسفة المسلمون إلى: “أن العلة والمعلول هي: أوصاف لكائنات قام العقل بانتزاعها من الخارج عن طريق التجريد، ولم يأتِ بها معه، وليست من طبيعته”. كذلك برعتِ الفلسفةُ الإسلاميةُ في توضيح القواعد الفلسفية للعلية، وفي البرهنة عليها.

في الدردشة القادمة –بإذن الله– نتحدث عن أهم القواعد الفلسفية للعلية وأولها قاعدة: الشيء ما لمْ يجبْ لمْ يوجدْ.

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

**********

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

أ.د شرف الدين عبد الحميد

أستاذ الفلسفة اليونانية بكلية الآداب جامعة سوهاج