الغلاء والذنوب
شاع ويشيع أن الغلاء وما ينزل بالمسلمين من فاقة ومشكلات أساسه وعلَّته الذنوب التي تنتشر بين الناس اليوم، وهذا صحيح من جهة الإيمان بالله، فلو اتقى المسلمون ربهم لرزقهم كما يرزق الطير؛ تغدو خماصا وتروح بطانا.
لماذا لا يشيع الغلاء بين الغربيين؟
وهنا يطرح بعض المتسائلين سؤالا: لماذا لا يشيع الغلاء وضيق الحال بين الغربيين، وسائر الأمم التي لا تدين بالإسلام؟
بل بعض الأمم كاليابانيين ليسوا أهل كتاب سماوي مثلا وهم على غير ملة الإسلام، كما لا يخفى علينا ما هم فيه من ذنوب وعصيان للمولى عز وجل، ومع ذلك هي أمم لديها من الرخاء ما يراه الجميع.
والجواب: إن الفكرة الشائعة التي تربط بين الغلاء والذنوب يجب أن تُفْهَمَ بصورةٍ صحيحةٍ والسؤال يجب أن يُنَاقَشَ كذلك بصورة سليمة وفي إطاره الصحيح.
أقسام الذنوب
فالذنوب قسمان: ذنوب في حق الله؛ كالتقصير في الصلاة، أو الإفطار عمدا في رمضان، أو عدم الحج على القادر المستطيع، وذنوب في حق العباد، وهذه قسمان، قسم معنوي كالسبِّ والنميمة،
وقسم منها ذنوب لها أثر مادي اجتماعي فاعل، مثل الغش في البيع والشراء ونحوه، الكذب، والسرقة، والاعتداء على النفس بالجرح أو القتل، ونحو ذلك.
والذنوب التي تؤدي إلى الغلاء وضيق الحال هي الذنوب التي تؤثر في الدنيا، كالغش والظلم والخيانة وشهادة الزور وتوسيد الأمر إلى غير أهله والسرقة، وعدم إعطاء العامل حقه مستوفيا ومنع الزكاة، إلخ.
وتنشأ هذه الذنوب من التقصير في حق الله، فالمسلم المؤمن الحق لا يغش ولا يظلم ولا يشهد الزور.
الغربيون لا يغشون
ولذا فالغربيون وإن لم يؤمنوا بالله ولم يصوموا ولم يصلوا ولم يزكوا فإنهم لا يغشون، بل تتعجب من أمانتهم ومحافظتهم على سمعة شركاتهم، وتعجبت جدا حين سحبت شركة تويوتا آلاف السيارات لإصلاحها لأن بها عيبا صناعيا، فالغرب لا يغش،
ويمكنك وأنت مواطن غير غربي أن تقف في المحكمة أمام رئيس دولة غربية تطالبه بحقك إذا كنت تعيش هناك وأخذ منك حقا، وحين كان المسلمون يحقُّون الحق ويبطلون الباطل كانوا سادة الدنيا وكانوا أعظم أمم الأرض.
على أن بعض المنافقين يروجون أن الغلاء سببه الذنوب، ويكأن الناس لو اجتمعوا في ساحة وصلوا ليل نهار ستنخفض الأسعار، من أين؟ وكيف؟ هل ستنخفض بلا عمل بلا إنتاج بلا أمانة بلا عدل ومساواة؟ كلا والله.
إنهم بما يفعلونه ينافقون ويفتنون الناس في دينهم، فما طُرِحَ السؤالُ عن ذنوب الغرب وعدم الغلاء إلا لأن منافقين سوَّلَتْ لهم أنفسهم أن يخلوا مسؤولية المسؤول، ويغشُّون أمتهم ويرمون الذنب في عنق الأمة، كأن الأمة مذنبة والمسؤول لا يترك سجادة الصلاة.
اقرأ أيضاً:
محاربة الغلاء بالاستقامة
هذا وإن كان المسلم يجب أن يطيع ربه فيما هو حق لله وما هو حق للعباد، فالطاعة مظهر الإيمان الذي هو أساس كل شيء، فعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ –وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ: غَيْرَكَ– قَالَ: قُلْ: آمَنْتُ بِاللهِ، ثم اسْتَقِمْ»، صحيح مسلم (1/ 47 ط التركية).
جاء في فتح المنعم: «أجاب صلى الله عليه وسلم بكلمة جامعة، شاملة للعلم والعمل، وكل ما يتعلق بالمأمورات والمنهيات. قال “قل آمنت بالله” وحده لا شريك له وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، قولا صادقا مطابقا لما في القلب،
“ثم استقم” على حدود الله، وعلى صراطه المستقيم، مطيعا أوامره، مجتنبا نواهيه، من غير انحراف إلى الباطل أو ميل إلى الهوى والشهوات»، فتح المنعم شرح صحيح مسلم (1/ 144).
إلا أننا لو عملنا وتجنبنا الذنوب جميعها فسوف تنصلح حالنا، ولا سيما الذنوب التي تخرِّب حياتنا، فلو تركنا الغش والظلم والرشوة والمحسوبية والاحتكار، وقام المسؤولون على خدمة الناس وتنظيم إدارة البلاد ورعاية مصالح العباد،
لو تركنا الذنوب التي تتعلق بحقوق العباد لتغير حالنا من الخمول إلى النشاط ومن الاستهلاك إلى الإنتاج ومن الجهل إلى العلم ولصنعنا حياة رائعة، ولتخلصنا من الغلاء وضيق الحال بلا رجعة.
غلاء المعيشة أثر عن الذنوب في حق العباد
على أن المسلم لا يغير حياته الدنيا دون أن يعمر حياته الأخرى، بإيمان صادق بالله، وطاعة رب العزة وعبادته، من صلاة وهي صحة للأرواح، وصيام وهو صحة للأبدان، وزكاة وهي صحة للمجتمعات، وحج وهو اجتماع للمسلمين من شتى بقاع الأرض إعلانا للعبودية لله وحده.
ولا تظنَّنَّ أني لا أنصح نفسي وإياك بالإيمان بالله وطاعته والانقياد له والابتعاد عن الذنوب كبيرها وصغيرها، لا ورب الكعبة، كيف ذلك؟ والإيمان بالله وطاعته هو مناط الفلاح في الدنيا والآخرة،
قال تعالى: “يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ” [آل عمران: 102]، وقال: “ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ٦٣ لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ لَا تَبۡدِيلَ لِكَلِمَٰتِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ” [يونس: 63-64].
فيا أيها المسلم إن الغلاء وضيق الحال سببه الذنوب في حق العباد، فالتعليم مغشوش، والعلاج مغشوش، والغذاء، والماء، إلخ، وبعض ذلك محتكر من أجل تحقيق أعلى الأرباح،
غير التفاوت غير المقبول في الأجور والمعيشة، فأصلح دنياك بما تصلح به دنياك، ابتعد عن كل ذنب في حق غيرك من عباد الله تنصلح لك الحياة. أما ما هو حق لله فأنت فيه مؤتمن أمام ربك.
فلنصلح دنيانا بالابتعاد عن الذنوب
وليتضح هذا الأمر، أرأيت لو اشتكيت من ألم في بطنك فهل يصح للطبيب أن يصف لك دواء للعينين على اعتبار أن البطن والعينين في جسد واحد؟ فكذلك ما لله لله وما للناس للناس، وقد أصلح الغربيون ما للناس فنجحوا وفازوا بصلاح دنياهم،
وأما ما بينهم وبين الله فسيحاسبهم الله عليه، فلنصلح نحن المسلمون دنيانا بالابتعاد عن الذنوب صغيرها وكبيرها، وأهمها الذنوب التي تقع في حق العباد وتؤدي إلى ضياع الحقوق وخراب الدنيا،
أما الصلاة والصيام وغيرها فإنني أحسب المسلمين على خير، وفيهم كثيرون يؤدون مشاعر العبودية لله بصدق وإخلاص، وأدعو نفسي وغيري لتجنب المعاصي والذنوب كلها، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا