تحدثنا -صديقي القارئ صديقتي القارئة- في دردشة سابقة عن معنى العقل (ما العقل؟ ج1، ج2). وسنتحدث، في هذه الدردشة، عن موضوع النظر أو الفكر ونتساءل: ما الفكر؟ وكيف تتم عملية التفكير عند بني البشر؟ وما هي المراحل التي تمر بها عملية التفكير؟ وهل يمكن لهذه العملية أن تتم دفعة واحدة بحيث يمكن أن تتخطى فيها المراحلُ فتكون أسرع من لمح البصر؟
ولنبدأ مقاربة معنى التفكير أولًا:
ما الفكر؟
فُطرَ الإنسانُ على التفكير، مستعدًا لتحصيل المعارف في شتى العلوم، عن طريق حضور المُدْركات الفكرية (صور الأشياء الحاضرة عند العقل)، بما مُنح من قوة عاقلة مفكرة، تلك القوة التي لم تمنح لغيره من بقية الكائنات الأخرى.
هذه المُدْركات الفكرية هي التي يستنتجها العقلُ بالنظر والتأمل، والنظر من تلك المعلومات، التي عنده كي يتوصل بها إلى أمورٍ مجهولة.
تمامًا كما يفعل الباحث الجنائي، إذ يتعرف على المجرم المجهول من الأدلة والمعلومات الحاضرة عنده. فالمقصود من الفكر هو: “إجراء عملية عقلية في المدركات، أو المعلومات الحاضرة عند العقل، ليتوصل بها إلى معلومات مجهولة عنده”. أو هو: “ترتيب الأمور المعلومة الحاضرة في ذهن الإنسان للوصول إلى الأمور المجهولة الغائبة عنه”. وباختصار إن التفكير هو: “حركة العقل بين المعلوم والمجهول”.
قسما الأمور المعلومة والمجهولة
تنقسم الأمورُ المعلومة، التي في ذهن الإنسان، إلى قسمين رئيسين: التصور والتصديق. فما التصور وما التصديق؟
التصور والتصديق: إذا توجهت إلى إنسان، وحدثت صورته في ذهنك، فهذا يسمى “تصورًا”. وإذا نظرت إلى نجم في السماء وانتقشت صورته في ذهنك فهذا تصورٌ أيضًا. وإذا سمعت صوتًا وحدث في ذهنك العلمُ بذلك الصوت فهذا العلم تصورٌ أيضًا.
أما إذا عرفت أن ذلك الإنسان عالم وقلت “هذا عالم” فقد نسبت العلم إلى ذلك الإنسان فهذه النسبة تسمى تصديقًا. وإذا توجهت إلى أن النجم في السماء الذي رأيته مضيئًا، فقلت: “هذا النجم مضيء”.
فقد نسبت الإضاءة إلى ذلك النجم، فهذه النسبة تصديقٌ أيضًا. وإذا توجهت إلى أن الصوت الذي سمعته صوت زيد، فقلت: “هذا الصوت صوت زيد” فقد نسبت إلى صوتٍ كونه من زيد، فهذه النسبة تصديقٌ أيضًا. فاعلم أن الصور التي تحدث في الذهن هي: إما تصور وإما تصديق.
فإن كان نسبة شيء إلى شيء، آخر فتلك الصورة تسمى تصديقًا (جملة خبرية يمكن الحكم عليها بالصدق أو الكذب) وإن لم تكن نسبة شيء إلى شيء آخر، فتلك الصورة تسمى تصورًا (مفردات لا يحكم عليها بشيء). إذن فالعلم -الذي هو إدراك الأشياء- منحصر في التصور والتصديق.
أقسام الأمور المجهولة
وعلى ذلك تنقسم الأمور المعلومة، التي في ذهن الإنسان، إلى قسمين: المعلوم التصوري والمعلوم التصديقي. كذلك تنقسم الأمور المجهولة إلى قسمين: المجهول التصوري، أو مجاهيل تصورية، والمجهول التصديقي، أو مجاهيل تصديقية.
المجهول التصوري: مثل ما الإنسان؟ هذا مجهول تصوري، أي جهلنا بصورة الشيء (حقيقة أو ماهية أو معنى الإنسان) حيث يخلو الذهن من حقيقة أو ماهية أو معنى ذلك الشيء. وعن طريق المعلوم التصوري الذي يسمونه التعريف أو المعرِّف نستكشف المجهولَ التصوري.
المجهول التصديقي: أن نكون عالمين بالصورة، ولكنا جاهلون بالحكم على تلك الصورة، مثال: لو قال قائل: العالم حادث. فإنه يحتاج إلى تصديق، أي حكم أو دليل، بكون العالم حادثًا وليس قديمًا.
فالسائل يتصور معنى العالم (السماء والأرض وما بينهما) ويتصور معنى الحادث (في مقابل القديم)، ولكنه لا يملك الدليل أو الحكم ليصدق ويحكم بأن العالم حادث، فيسأل عن حكم أو دليل حدوث العالم، وجهله بالحكم هو جهل تصديقي، أي مجهول تصديقي يحتاج إلى حكم أو دليل. وعن طريق المعلوم التصديقي الذي يسمونه الحجة أو الدليل نستكشف المجهول التصديقي.
والخلاصة:
التفكير هو “حركة العقل بين المعلوم والمجهول”. والمعلوم قد يكون تصورًا أو تصديقًا، فينقسم إلى: المعلوم التصوري والمعلوم التصديقي. وكذلك المجهول قد يكون مجهولًا تصوريًا أو مجهولًا تصديقيًا.
والسؤال الآن: ما هي عملية التفكير؟ وما المراحل التي تمر بها؟ وكيف يتم انتقال الذهن من المعلومات التصورية إلى المجهولات التصورية، ومن المعلومات التصديقية إلى المجهولات التصديقية؟ ذلك -بإذن الله- هو موضوع دردشتنا القادمة (كيف نفكر؟).
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا