للوهم -كقوة من قوى النفس- قدرةٌ كبيرةٌ على السيطرة على الإنسان، بحيث يمكنه أن يلغي ويعطل قوة العقل تعطيلًا تامًا، بل ويمكنه أن يصارع البرهان اليقيني العقلي فيصرعه، ومن ثم فهو من أسرع الطرق المؤدية إلى الإلحاد! إذن لنتحدث في هذه الدردشة -صديقي القارئ صديقتي القارئة- عن هذا الموضوع المهم “العقل والوهم” بادئين بالتساؤل:
ما الوهم؟
يدرك الإنسانُ الأشياءَ وتسمى المعلومات، ويُسمَى الإنسان المدرك لهذه الأشياء المعلومة بالعالِم وهذا الإدراك هو ما يسمى العلم، أي مطلق الإدراك ومطلق المعرفة، وليس العلم بمعناه المعاصر.
يسمى العلم الذي يحصل عليه الإنسان بــ”العلم الحصولي”، أي: العلم الذي يحصّله الإنسانُ في حياته، ومعناه: حضورُ صورِ الأشياءِ في ذهنه. وهذا العلم الحصولي يكون على مراحلَ متصاعدةٍ، يمر بها الإنسان منذ طفولته، عن طريق الحواس الخمس الظاهرة: اللامسة، والباصرة، والسامعة، والذائقة، والشامة.
وأيضًا عن طريق حواسه الخمس الباطنة: الحس المشترك (مصب مدركات الحواس الخمس الظاهرة كلها، وهي قوة إدراك صور المحسوسات المختلفة)، الخيال (قوة حفظ صور المحسوسات التي جاءت عبر الحس المشترك)، الوهم (قوة إدراك المعاني المجردة الجزئية، كحب زيد وبغض عمرو)، الحافظة (قوة حفظ المعاني الجزئية التي يدركها الوهم)، المتخيلة (أو المتصرفة؛ قوة فصل ووصل وتركيب صور الأشياء، كتركيب رأس إنسان على جسم حيوان له جناحان).
وإذا تساءلنا الآن: على أي نحوٍ تحصل للإنسان هذه الإدراكات الحسية والخيالية والوهمية والعقلية؟ لنبدأ الإجابة عن سؤالنا بالعلم الإحساسي:
العلم الإحساسي
أول ما يرتبط الطفل بالعالم الخارجي يرتبط بحواسه التي تنقل إليه جملةً من الانطباعات الحسية كبرودة الماء وحرارة النار إلخ. وهذه المرحلة لا تختص بالإنسان فقط، بل يشترك معه سائرُ الحيوانات التي لها جميع تلك الحواس. وإذا كان الحس المشترك قوة قبول الصور، فإن الخيال قوة حفظها من الضياع والنسيان.
العلم الخيالي
ثم تتوسع مداركُ الطفل، فيتمكن من التصرف في المحسوسات المحفوظة في ذهنه ويتصورها، كما لو قال الأب لطفله سأشتري لك لعبة، فإنه يستحضر صورة اللعبة في ذهنه وهي ليست حاضرة أمامه وإنما أخذها من مشاهدته السابقة لبعض اللعب. والخيال هو القوة التي تحفظ الصور التي يدركها الحس المشترك. فوظيفة الخيال هو الاحتفاظ بالصور المعلومة بالعلم الإحساسي.
وهذه المرحلة من الإدراك تسمى بالعلم الخيالي (حسب اصطلاحات المنطق) ولا يختص بها الإنسان، بل يشاركه فيها بعضُ الحيوانات.
العلم الوهمي
ثم تترقى مدارك الطفل من المحسوسات إلى إدراك المعاني الجزئية والمفاهيم التي لا مادة لها ولا مقدار، مثل حب الوالدين لطفلهما، أي الحب الجزئي، وعداوتهما لمن يؤذيه، أي العداوة الجزئية (وليس الحب الكلي المجرد، أو العداوة الكلية غير المضافة إلى جزئي، فهذه تسمى عقلًا)، إلى غير ذلك من المعاني التي يدركها الإنسان بقوة الوهم، كغيره من الحيوانات الأخرى التي لديها أيضًا قوة الوهم (كخوف الحُمُر الوحشية من الأسد).
وقد عبر الفيلسوف صدر الدين الشيرازي (توفي 1050 هــ) عن الوهم بقوله: إنه عقلٌ ساقط عن مرتبته”. أي عقل نازل أو مقيد، فالعقل عندما يضاف إلى جزئي يكون وهمًا، وأما إذا تعلق بكلي فيكون عقلًا.
والعقل السليم من تأثير الوهم يتجرد عن الوهم ولا يخضع لحكمه، فيكشف كذب أحكامه للنفس حينما يحاول الوهم تصور الأمور المجردة تصورًا حسيًا. وهذا هو دور العلم العقلي:
العلم العقلي
ثم يذهب الإنسان وحده في مداركه متميزًا عن الحيوانات في قوة العقل والفكر التي يتصرف من خلالها بمدركاته الحسية والخيالية والوهمية ويدرك معانيها الكلية، ويميز الصحيح من الفاسد، والصواب من الخطأ.
فالإنسان يتميز عن غيره من بقية الكائنات بإدراك الكليات. وعلى ذلك، فالكليات هي العلم الأكمل الذي كان به الإنسانُ إنسانًا بالفعل، بعد أن كان إنسانًا بالقوة عند ولادته من بطن أمه لا يعلم عن الكليات شيئًا، وكل ما يملكه مجرد الاستعداد لإدراك الكليات والأمور المجردة عن الحس والمادة، فإن أدركها كان إنسانًا بالفعل.
صراع قوى النفس
وهذه القوى التي بنفس الإنسان إنما تتصارع فيما بينها، فثمة صراع بين العقل والوهم والخيال، وخصوصًا بين العقل والوهم الذي يمكن أن يؤدي إلى الإلحاد “وهم الإلحاد” إن انتصر الوهم على العقل، وهذا هو موضوع دردشتنا القادمة بإذن الله.
اقرأ أيضاً:
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا