علم نفس وأخلاق - مقالاتمقالات

أن تكون إنسانا .. ماذا تعني؟! – الجزء الأول

منذ عدة سنوات جال بذهني تساؤل عن تلك السمات المشتركة التي تجمع بني الإنسان وتمنح المرء منا وصفه صفة الإنسانية من عدمه، ولا أقصد بها بالطبع هنا بهذه السمات تلكم السمات البيولوجية “الحيوية” التي تميزه عن الكائنات الحية التي تشاركه الحياة على ظهر هذا الكوكب،

وإنما أقصد تلكم السمات الأخلاقية التي تنعكس على سلوكه كإنسان، على نحو يجعل هذا السلوك سلوكًا مغايرًا لسلوك هذه الكائنات الحية، حتى تلك الحيوانات التي قد يتشابه معها في سمات بيولوجية عديدة. وإذا ما افترضنا عدم توافر مثل هذه السمات الأخلاقية في مسالكه، فما الوصف الذي يليق به حينئذ؟

السمة الرئيسة

وحتى نجيب عن التساؤل المتعلق بالسمات الرئيسة المشتركة التي تجعل سلوك إنسان ما سلوكًا إنسانيًّا بحق، فلا بد أن نضع في حسباننا –بداية– بدهية أن السمة الرئيسة التي تميز الإنسان عن الحيوانات هو أنه كائن له عقل قادر على أن يرشده لكيفية التصرف في كل سلوك يصدر عنه، في ضوء إدراك متكامل للنتائج العاجلة أو الآجلة التي تنجم عن هذا السلوك على نفسه وعلى الآخرين من حوله، سواء تجلى ذلك السلوك في صورة قول أو فعل أو شعور.

بينما تقف حدود عقلانية الحيوان –إن جاز لنا التعبير– عند إرشاده لكيفية التصرف في كل سلوك يصدر عنه إلى السبل التي تجعل سلوكه هذا قادرًا على تحقيق أهدافه الآنية، بغض النظر عن نتائج هذا السلوك اللاحقة على نفسه أو على الآخرين من حوله.

غير أن أهم ما يميز عقلانية الإنسان –أي إنسان– ليس كونها ترشده فقط لكيفية تحقيق سلوكه للهدف الذي يصبو إليه، وإنما كونها تلزمه بالتحلي بالمبادئ الأخلاقية الفطرية التي تحدد غايات وملامح أي سلوك يسلكه مع غيره من بني جنسه.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

المبادئ الأخلاقية الفطرية

ونقصد هنا بالمبادئ الأخلاقية الفطرية تلكم المبادئ التي تعد قاسمًا مشتركًا بين البشر جميعًا، وتستمد فطريتها من كونها مركوزة في كل نفس بحكم انتمائها إلى الجنس البشرى، على نحو يجعل كل إنسان يتمنى، بل يجد أن ثمة التزامًا أخلاقيًّا على كل بني جنسه أن يتحلوا بها في سلوكهم معه –مهما علت مكانتهم مكانته– سواء تمثل سلوكهم هذا في صورة (فعل) أو (قول) أو (شعور).

وهو ما يعني أنه إذا ما سمح له عقله أن يتجاوز سلوكه تلكم الأخلاقيات، فهو هنا سماح يُخرجه بديهة عن أخلاق الفطرة الإنسانية السوية، التي يُحتّم عقله –مناقضًا بذلك نفسه– على غيره من البشر أن يتحلوا بها عند التعامل معه. ويرى في تجاوزهم لها تجاوزًا لفطرتهم الإنسانية السوية.

وحتى يمكن وضع اليد على تلكم الأخلاق الفطرية التي يعد سماح عقل المرء منا لصاحبه الخروج عنها خروجًا عن فطرته الإنسانية السوية –ناهيك عن كونه خروجًا قبل ذلك عن العقلانية– نضرب هنا مثالًا:

هب أن شخصًا اسمه “زيد” كان يعد وجبة غداء، وترك باب بيته مواربًا ليتمكن صديقه “سعد” الذي وعده أن يتناول معه الطعام من الدخول وقتما أتى، وبالفعل وضع زيد –من بين ما وضع– على المائدة دجاجة مشوية، ثم دلف إلى المطبخ ليكمل إعداد المائدة، وأثناء خروجه فوجئ بقط غريب قد تسلل عبر الباب الموارب يخطف الدجاجة، ويجري مسرعًا إلى خارج الدار على نحو لا يمكن اللحاق به.

ثم هب أن نفس الحدث الذي حرم زيدًا دجاجته كان بطله هذه المرة إنسانا اسمه عمرو، استغل أيضًا فرصة الباب الموارب فخطف دجاجة زيد وجرى مسرعًا، دون أن يتمكن زيد من اللحاق به أيضًا.

السؤال هنا: هل يمكن أن يكون شعور زيد المنكوب في دجاجته حيال القط والإنسان واحدًا؟!

الإجابة محال.. ففي حالة القط لا ينبغي لزيد أن يلوم إلا نفسه عندما أخطأ التقدير وترك الباب مواربًا، لأن زيدًا لا يمكن أن يتوقع من هذا القط الغريب سوى ذلكم الفعل، وفطرته تسمح له بذلك تمامًا، إلا أن ارتكاب إنسان سوي العقل لذات الفعل، هو عمرو، أمر يصيب زيدًا بالحنق والغضب على هذا السارق على نحو يجعله يصب عليه أقسى اللعنات.

السؤال.. لماذا؟

الإجابة: لأن عقلانية عمرو كإنسان يُفترض أن تلزمه باتباع الأخلاق الفطرية السوية المركوزة في نفسه، والتي تجعله يشعر بالظلم عندما يعتدي زيد –أو أي شخص آخر– على شيء مما يمتلك، وهو ما يعني أن عمرًا  هنا، وعندما سمح له عقله أن يقوم بهذا الفعل الذي لا يرتضي لأي شخص أن يقترفه في حقه،

قد خرج عن مقتضيات العقلانية الإنسانية السوية، والتي يجب أن تُلزمه بالأخلاق الفطرية، التي ينتظر من كل أقرانه من بني البشر أن يتعاملوا معه على هداها، وأدخل نفسه في دائرة عقلية أخرى لا تهدي صاحبها إلا لكيفية تحقيق نفع ذاتي آني أو دفع ضرر حال،

ولا ترى في الاعتداء على الآخرين نقيصة أخلاقية، ولا تبالي بمشاعرهم ولا مصالحهم، طالما تعارضت مع مصالحها الذاتية الآنية، ألا وهي العقلية التي تهتدي بها الفطرة الحيوانية، والتي سمحت للقط –سالف الذكر– أن يخطف دجاجة زيد، وهي نفسها التي تسمح لقط آخر أقوى أن يستولي قهرًا على نفس الدجاجة من القط الذي خطفها من مائدة زيد،

دونما شعور بالذنب.. نعم سينتاب قط زيد الضعيف شعورا بالقهر، إلا أن هذا القط الضعيف نفسه لن يتوانى –إن سنحت له الفرصة– عن اغتصاب ما يمتلكه قط ثالث أكثر منه ضعفا!!

وهكذا، إنها فطرة قائمة –في مجملها– على استخدام قدراتها العقلية المحدودة في كيفية الاهتداء لسبل تحقيق النفع اللحظي للذات، ودفع الضرر الآني عنها، حتى ولو خلّفَ ذلك النفع اللحظي ضررًا دائمًا يحيق بالآخرين، أو يحيق بها هي نفسها بعد حين.

وهنا لنا أن نتساءل:

إذا كان ذلكم السلوك الذي ارتكبه عمرو يتنافى مع الفطرة الإنسانية السوية، ويدخل به في نطاق ما تسمح به الفطرة الحيوانية، على نحو يثير عليه حنق زيد وسخطه، فكيف يمكن لزيد أن يتجنب الوقوع في أي سلوك يمكن أن يخرجه من حدود الفطرة الإنسانية السوية، ويعرضه لحنق الآخرين عليه وسخطهم؟

أو بمعنى آخر: هل ثمة معايير رئيسة يمكن أن يهتدي بها زيد لضمان اتفاق سلوكه مع معايير السلوك التي تفرضها هذه الفطرة الإنسانية السوية، بما يجنبه حنق الآخرين وسخطهم، ويجلب له رضاهم وودهم؟

الإجابة نعم.. ثمة معايير ثلاثة كلية يمكن أن يهتدي بها زيد في تقرير ما إذا كان السلوك الذي يقترفه مع أي شخص يقع في نطاق الفطرة الإنسانية السوية أم يقع في نطاق فطرة أدنى هي الفطرة الحيوانية، وهذا ما سنعرض له في المقال التالي بمشيئة الله تعالى.

اقرأ أيضاً:

قيمة الإنسان الحقيقية

الحرية المسؤولة البنَّاءة 

الإنسان” ذلك الكائن الأخلاقي

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

*****************

لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا

لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا

د. محمود السماسيري

أستاذ الإعلام المشارك بجامعتي سوهاج بمصر حاليا، واليرموك بالأردن سابقا.