تحدثنا في الدردشة السابقة “العقل والتناقض – الجزء الأول” عن معنى التناقض وشروط وقوع التناقض في نص من النصوص، بين قضيتين، ومتى تتناقض قضيتان تناقضًا عقليًا، حيث بيّنا أن شروط التناقض تنقسم إلى قسمين رئيسين: قسم يتعلق باتحاد القضيتين في ثمانية أمور، أي: “الوحدات الثمان”: الموضوع، المحمول، الزمان، المكان، الشرط، الإضافة، الكل والجزء، القوة والفعل. وقسم يتعلق باختلاف القضيتين. وقد تحدثنا عن القسم الأول. ونتحدث -في هذه الدردشة- عن القسم الثاني الذي يتعلق باختلاف القضيتين، ويتضمن ثلاثةَ شروطٍ:
القسم الثاني: الاختلاف في القضيتين (الشروط الثلاث):
لكي نحكم بأن قضيتين متناقضتان يجب أن تكونا مختلفتين في ثلاثة أمور: الكم، الكيف، الجهة:
-
“الكم”:
المقصود بالكم أي: القضية الكلية (الخبر أو العبارة التي تسبقها الألفاظ التي تدل على الكلية، مثل: كل، جميع، عامة، كافة، إلى غيرها من الألفاظ التي تدل على ثبوت المحمول لجميع أفراد الموضوع)، والقضية الجزئية (الخبر أو العبارة التي تسبقها الألفاظ التي تدل على الجزئية، مثل: بعض، واحد، كثير، قليل، إلى غيرها من الألفاظ التي تدل على ثبوت المحمول لبعض أفراد الموضوع).
والاختلاف بالكم هو إن إحدى القضيتين إذا كانت كليةً كانت الأخرى جزئيةً. فلو اتفقتِ القضيتان في الكلية أو الجزئية لم تتناقضا.
بعبارة أخرى: يحدث التناقض بأن تكون القضيتان مختلفتين في (الكم)، يعني الكلية والجزئية، إذ لو اتفقتا في ذلك أمكن كذبهما معًا.
أمثلة الاتفاق في الكلية:
“كل معدن ذهب” و”لا شيء من المعدن بذهب”، فإن كلتا القضيتين الكليتين كاذبتان.
أمثلة الاتفاق في الجزئية:
“بعض الحيوان إنسان” و”بعض الحيوان ليس بإنسان” فإن كلتا القضيتين الجزئيتين صادقتان. لا يوجد تناقض، إذ في التناقض يجب صدق إحداهما مع كذب الأخرى.
-
“الكيف”:
هو إحدى القضيتين إذا كانت موجبة ( أي: العبارة التي حُكمَ فيها بثبوت المحمول للموضوع، مثل: زيد قائم) كانت الأخرى سالبة ( أي: العبارة التي حُكمَ فيها بسلب المحمول عن الموضوع، مثل: زيد ليس بقائم).
فلو اتفقت القضيتان في الإيجاب أو السلب لم تتناقضا. أي: يحدث التناقض بأن تكون القضيتان مختلفتين في (الكيف)، أي الإيجاب والسلب، بأن تكون إحدى القضيتين موجبة والأخرى سالبة حتى يتحقق التناقض، إذ لو كانتا معًا موجبتين أو كانتا معًا سالبتين أمكن صدقهما معا أو كذبهما معًا، وفي التناقض يجب صدق إحداهما أو كذب الأخرى.
مثال الاتفاق في الموجبة:
“كل إنسان حيوان” و”بعض الحيوان إنسان”. فإن كلتا القضيتين صادقتين
مثال الاتفاق في السالبة:
“بعض الذهب ليس بمعدن” و”كل الذهب ليس بمعدن” فإن كلتا القضيتين كاذبتان.
-
“الجهة”:
الجهة أي نسبة المحمول إلى الموضوع في الذهن. والقضية إن لم يبين فيها نسبة المحمول إلى الموضوع تسمى “مطلقة”، وإن بين فيها جهة النسبة سميت “موجهة”. والموجهات بسيطة (وهي ثمانية أنواع) ومركبة (وهي ستة أنواع) ولا نطول بذكرها.
ولا بد من الاختلاف في القضيتين المتناقضتين بالجهة. وهو أمرٌ يقتضيه طبع التناقض، كالاختلاف بالإيجاب والسلب أي: إن طبع التناقض بين القضيتين يقتضي أن تكون إحداهما موجبة والأخرى سالبة، لأن نقيض كل شيء رفعه (مثل: نقيض إنسان لا إنسان فإذا كانت جهة إحداهما الدوام كان نقيضها عدم الدوام، وإذا كانت الإمكان كان نقيضها عدم الإمكان، وهكذا).
والخلاصة:
بدأنا أولًا بتعريف التناقض، ثم بينا شروطه التي تنقسم إلى قسمين أنتجا لنا أحدَ عشرَ شرطًا للقول بوجود تناقض بين قضيتين في نص من النصوص.
وننتهي إلى أنه لكي نحكم بأن قضيتين متناقضتان يجب أن تكونا متحدتين في ثمانية أمور، اشتهرت عند المناطقة باسم “الوحدات الثمان”: الموضوع، المحمول، الزمان، المكان، الشرط، الإضافة، الكل والجزء، القوة والفعل. وكذلك يجب أن تكونا مختلفتين في ثلاثة أمور، هي: الكم، الكيف، الجهة.
ومن هنا ندرك أن بعض شبابنا يغامر بمستقبله الأبدي في الآخرة لتوهمه التناقض في نص الذكر الحكيم، فيحكم -بغير علم أو عقل- بوجود تناقض في الكتاب الذي تحدى البشرَ لأن يجدوا فيه تناقضًا ما.
والآن تستطيع -صديقي القارئ صديقتي القارئة- بعد أن عرفتَ شروطَ الحكم بالتناقض، أن تحكم بنفسك على كل من يدعي في الكتاب تناقضًا، وعندئذٍ تتيقن أنَّ القرانَ الحكيمَ لا يزال يتحدى!
اقرأ أيضاً:
هل أنبأنا القرآن الكريم حقا بوجود الثقوب السوداء؟
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا