في دردشاتنا السابقة “العقل واليقين (4- 1)” حدثتُك- صديقي القارئ صديقتي القارئة- عن القضايا اليقينية أو اليقينيات الستة: الأوليات، الحسيات، والتجريبيات، والمتواترات، والحدسيات، والفطريات، والتي عليها تُؤسسُ جميعُ القضايا الأخرى، وعليها يُبنى صرحٌ المعرفةِ البشرية، وعليها تدورُ كلُ مجادلاتنا العقلية.
وفي هذه الدردشة نتحدث عن علاقة العقل بالجدل: المتعلق بالمناظرات، والمحاورات، والشاتات، والدردشات إلخ، التي كثيراً ما نشاهدها في كل مكان في الواقع الفعلي أو الافتراضي: برامج تلفزيونية شهيرة، صحف ومجلات، وسائل التواصل الاجتماعي …
والتي تغطي كل الموضوعات تقريباً: الاجتماعية، والسياسية، والدينية، والثقافية، والرياضية، وغيرها من الموضوعات التي يشتجر حولها المتناظرون والتي هي مثابة حلبة لصراعٍ لا ينتهي بين “الثيرة” البشرية، أو بين “الديكة” البشرية!
وغالباً ما يكون هدف هذه المناظرات هو الانتصار على الخصم بأي ثمن! ولذلك يكون التساؤل الآتي واجبًا:
هل الجدل علم؟
بدايةً؛ إن تحصيل اليقين- في حد ذاته- ليس هو مهمة الجدل؛ سواء عند أرسطو أم عند المناطقة الذين وضعوه مع السفسطة والخطابة والشعر، منطقاً للظن، وأخرجوه من “منطق اليقين“. والعلم لا يكون علماً إلا إذا كان موصلاً إلي اليقين- على الأقل من ناحية المنهج وليس من ناحية النتائج.
إذن: الجدلُ الذي ليس مهمته اليقين والبرهان والحقيقة هو الجدل المنطقي؛ أعني القياس المؤلف من مقدمات مُسَلَّمَة (القضايا التي وقع التسالم عليها بين الطرفين)، أو مقدمات مشهورة (القضايا الذائعة بين جميع العقلاء، أو أكثرهم، أو طائفة خاصة منهم).
أما الجدل كما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ” (النحل:125).
فالجدل ليس نوعاً واحداً، وإنما ينقسم- وفقاً لهذه الآية الكريمة- على ثلاثة أقسام:
- جِدَالٌ غيرُ حسنٍ (الجدل بالباطل).
- جِدَالٌ حسنٌ. (جدل الإقناع بالحق)
- جِدَالٌ أحسن. (الجدل الموصل إلى الحق).
ابن حزم الأندلسي وعلم الجدل
ولقد جاء الفقيه والفيلسوف القرطبي الأندلسي ابن حزم (ت 456 هـ) ليرفض جدل المناطقة: الظني الذي ليس هدفه الأخير الوصول إلى الحق، أو إقامة البرهان، بل غايته الأساس هي الانتصار على الخصوم، وهزيمة المتحاور بالحق أو بالباطل، ويقرر جدلَ القرآن: الجدل بالتي هي أحسن؛ أي الذي يوصل إلى الحق.
ومن بعد ابن حزم سيأتي مواطنه وبلديه الفيلسوف الفقيه ابن رشد القرطبي الأندلسي (ت 595 هـ)، ليرفضَ جدلَ المتكلمين ويقررَ جدلَ القرآن.
الجدل: محاورةٌ ومناظرة لطلب الحق
والجدل عند ابن حزم يستدعى معنى المناظرة أو المحاورة فالجدل عنده: “إخبار كل واحد من المختلفين بحجته أو بما يقدر أنه حجته، ولا بد أن يكون أحدهما محقاً.. ولا سبيل أن يكونا معاً محقين“.
فالجدل عند ابن حزم محاورةٌ، والمحاورةُ حوارٌ يجب أن يؤسس على اليقين لا الظن. وعلى ذلك يعد ابن حزم الانتصارَ في المناظرة هو: “ظهور البرهان الحقيقي والوصول إلي الحق“، ولا يعد انقطاع الخصم، والظهور عليه، والتشهير به، والتغرير به، انتصاراً على الإطلاق!
لذلك يطلق على باب الجدل في كتابه “التقريب لحد المنطق والمدخل إليه” باب “الكلام في رتب الجدال وكيفية المناظرة المؤديين إلي معرفة الحقائق“. وفيه يقرر ابن حزم أن الجدل: “لا يكون إلا بين اثنين طالبي حقيقة ومريدي بيان“.
على ذلك تجب التفرقةُ بين المغلوب وقوله؛ فقد يكون الشخص مغلوباً مقهوراً والحق معه، والبرهان: هو الحَكَمُ بين المتخاصمين والبرهان لا يتعارض أبداً: “فما صحَّ ببرهانٍ لا يبطله برهانٌ آخرُ أبداً“. وأن الذي يصحح الأقوالَ هو: “ردها إلي المقدمات الأوائل أي؛ بدهيات العقل وأوائل الحس، فما شهدت له هذه المقدمات الأوائل فهو صحيح وما لم يرجع إليها فهو فاسد“.
الخلاصة:
لقد كان القدماءُ والمتقدمون إذا انقطع الخصم يقولون: “ليس على السائل بيان الحقيقة“، وأما ابن حزم فيقرر: “أن ذلك عليه وأن بيانَ الحقائقِ “فرضٌ واجبٌ“.
وعلى ذلك تكون المهمةُ الحقيقيةُ للباحث الجدلي هي: الوصول إلي الحقيقة، لا الانتصار على الخصم، ويكون الجدلُ وسيلةً لتحصيل اليقين، في حين يكون البرهانُ هو الغاية، أو يكون الجدلُ هو منهج تحصيل اليقين في الحوار المباشر بين أطراف النزاع.
ولذلك سيضع ابن حزم القواعَد المتعلقةَ بالاستدلال الجدلي الحق، أعني؛ قواعد المناظرة والأطر الضابطة للجدل بالتي هي أحسن، لينقل الجدل من جدل المتكلمين إلى جدل البرهان: منطق الجدل بالتي هي أحسن. وهذا هو موضوع دردشتنا القادمة بإذن الله.
اقرأ أيضاً:
اختيار الكلام أهم من نحت السهام
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.
*****************
لمتابعة قناة اليوتيوب لأكاديمية بالعقل نبدأ، اضغط هنا
لقراءة المزيد من المقالات، اضغط هنا