مقالات

مصر محتاجة رئيس عسكرى

ليس هذا العنوان رفضًا أو سخرية من تلك المقولة، والتي تبدو وكأنها إحدى نواميس الكون، أن مصر لا ينفعها سوى الحاكم العسكري بقوته وصرامته وقدرته على السيطرة على زمام الأمور، والحقيقة أنه على الرغم من اختلافى الكامل مع مبررات تلك المقولة العتيدة، إلا أن تلك المقولة صادقة تمامًا بل وقد تكون الحل الحقيقي والسحري لكل ما يعانيه الوطن من تخبط وضياع، فأقر أنا بثقتى التامة والكاملة باحتياج مصر إلى رجل عسكري حقيقي، يكون قادرًا على إدارة الأمور والسير بسفينة الوطن في بحر الصراعات العالمية الحالية المتلاطم للوصول إلى بر الأمان دون أن يدفعه التيار إلى الغرق، ولا اكتفى بذلك التصريح وحسب، مع ما سيجلبه على من لعنات وسباب، مع ما اعتدنا عليه من قوانين ومبادئ دون النظر إلى مدى صحتها، وبخاصة مع تعارضها مع واقعنا القريب، فنكتفى برفض حكم العسكر وننادي بإسقاطه انطلاقًا فقط من فشل حاكم عسكري أو حتى اثنين أو عشرة، وننبرى للهجوم على توريث الحكم بعد ما عاناه الوطن من حاكم ووريثه، دون وجود أي ترجيح عقلي كان أو تجريبي لضرورة وجوب فشل شخص بعينه، لذا سأنظر ليس فقط إلى إمكانية وجود الحاكم العسكري، بل إلى وجوبه لدى كل من الفلاسفة والحكماء.

فبالنظر إلى كتابات الفيلسوف اليوناني أفلاطون والذي يعد أول من نظر لدولة الفلاسفة، نجد اليوتوبيا الأفلاطونية تحث صراحة على أن يتمتع الحاكم بخبرة عسكرية ناتجة عن الترقي في الجيش، فيرى أن يكون الحكام من رحم حراس المدينة كما يطلق عليهم، وقد تطرق إلى تنشئتهم تفصيلًا، فيرى أن تبدأ تربيتهم وتهذيب نفوسهم وإمدادهم بالعلوم المختلفة منذ نعومة أظافرهم، فيقول: “يجب على الذين يتولون بناء المجتمع المنشود أن يميزوا من بين الأحداث أصحاب الاستعداد الحربي، فيفصلوهم طائفة مستقلة ويتعهدوهم بالتربية. عليهم أن يرتبوا لهم رياضة بدنية تنشئهم أصحاء أقوياء. وعليهم أن يغذوا نفوسهم بالآداب والفنون. فتكون التربية واحدة للجميع إلى حوالي الثامنة عشرة، وتكون سهلة لذيذة لأن الإكراه لا يكون الرجال الأحرار، وتكون فاضلة : تبدأ بالقصص الجدية البريئة الحاثة على الخير”[1]، ثم يستطرد فى نظامه التعليمى المفرز للحكام: “وعند الثامنة عشرة ينقطع الحراس عن الدرس ويزاولون الرياضات البدنية والتمرينات العسكرية، فإذا ما بلغوا العشرين فُصل الأجدرون منهم طائفة على حدة يعكفون على دراسة الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، وهي العلوم التي تستغني عن التجربة وتستخدم البرهان؛ فتنبه الروح الفلسفى”[2]، قبل أن يتطرق لأخر مراحل تهيئة الحراس لتولي السلطة والحكم فيقول: “وإذا ما بلغ الحراس الثلاثين يميز من بينهم أهل الكفاية الفلسفية رجالاً ونساء، الذين يتوفر فيهم محبة الحق وشرف النفس وضعف الشهوة وسهولة الحفظ. واجتماع هذه الصفات نادر وتأليفها بالقدر اللازم عسير فالحراس الفلاسفة أقلية. يقضون خمس سنين في دراسة الفلسفة والمران على المناهج العلمية ليجيدوا فهم الحقيقة والدفاع عنها، ثم يزج بهم فى الحياة العامة ويعهد إليهم بالوظائف الحربية والإدارية إلى سن الخمسين، فالذين يمتازون في العمل كما امتازوا في النظر يرقون إلى مرتبة الحكام ويدعون الحراس الكاملين، فهم خلاصة الخلاصة قد زال من نفوسهم في هذه السن الطمع ومازال النشاط، فيعيشون فلاسفة متوفرين على تأمل المعقولات الصرفة والخير المطلق.”[3]، وهكذا تنتهي مراحل التربية لدى أفلاطون التي معها يتأهل الحراس للحكم وتتأهب عقولهم للمسؤولية وتتحصن نفوسهم بها من الشهوات والأطماع، إلا أن أفلاطون لم يكتفي بهذا في غمار حرصه على أن يحتمي الحراس من الزلل، فيشير إلى ضرورة ضمان حصول الحراس الفلاسفة على كفايتهم المعيشية دون إفراط فيقول: “يقدم لهم الشعب مؤونتهم فلا يحتاجون لذهب ولا فضة فيحظر عليهم اقتناء أي شئ منهما، سواء أكان نقودًا أو آنية أو حليًا، ويحظر عليهم التصرف بشئ من ذلك؛ بل رؤيته إن أمكن، إذ أن الحكم خدمة لا استغلال، والحراس لأجل المدينة وليست المدينة لأجل الحراس. يحمد هؤلاء للشعب إطعامه إياهم، ويحمد الشعب لهم حراستهم إياه فينتفى الحسد والنزاع”[4]، فلا يرى أفلاطون سبيلًا آخر للحكم وللحكومة العاقلة إلا بالتربية فيقول: “ولا يسمح إلا بذلك النوع من التربية الذي يخرج النماذج الخلقية الملائمة للدستور والرجال الملائمين لصنع نسيج الدولة. ويأمر المربين بأن يحثوا الناشئين على اكتساب تلك الصفات”[5].

فيظهر مما سبق حاجة الدولة إلى رجل ترقى فى المناصب الحربية لدى أفلاطون، ولكنه يظهر في وصفه للحاكم ومراحل تهيئته المتطلبات التي عليه أن يتحصلها والتي بها تستعد نفسه لقبول الحكم، فالحاكم العسكري لدى أفلاطون تتراجع انتماءاته العسكرية أمام تحصيله للعلوم الهندسية والرياضية والطبيعية بل والفنون والموسيقى، إلى جانب اهتمامه بالعلوم العقلية التي بها يتحصل على القدرة على الحكم بعدالة، لذا كان الحاكم لدى أفلاطون هو الحكيم، وكانت دولته دولة الفلاسفة لا دولة العسكر أو الحراس، فيصرح أفلاطون بالفارق بين سياسة الطاغية العسكري –أو حتى المدني- وبين رجل الدولة الحكيم: “إن تدبير القطعان البشرية بالحكم العنيف هو فن الطاغية، أما التدبير الذي تقبله القطعان البشرية بحرية واختيار فندعوه سياسة وفن رجل الدولة”[6]، تلك الرحلة الطويلة للحكم التي يخوضها ذوو القدرة والاستعداد للسعي في كمالاته من تحصيل للعلوم الطبيعية والعقلية بل واستكمال كمالاته النفسية والبدنية بالرياضات والفنون، لينتهي في آخر المطاف بإقامة دولة العدل الذي يكون أساس الحكم والضامن لصلاح الدولة، أو كما صاغها أفلاطون نفسه: “ومهما يفعل الحكام الحكماء فإنهم لا يقعون في الخطأ، ماداموا متمسكين بمبدأ كبير، ألا وهو توزيع العدالة المطلقة بالحكمة والعلم السياسي. إنهم إذا ما فعلوا ذلك يحفظون حياة المواطنين ويصلحون أخلاقهم بقدر ما تسمح طبيعة البشر”[7].

وعلى الرغم من تفصيل أفلاطون للكلام عن يوتوبياه الأفلاطونية إلا أن الفارابي كان له تصوره الخاص الذي اتفق فيه مع أفلاطون حول ضرورة كون الحاكم هو أفضل من فى المدينة فيقول في ذلك: “رئيس المدينة هو أكمل أجزاء المدينة فيما يخصه، وله من كل ما شارك فيه غيره أفضله. ودونه قوم مرؤوسون منه ويرؤسون آخرين”[8]، كما اتفق معه في كون الحاكم ذو قدرة على مباشرة الأعمال الحربية فيرى أن من صفات الرئيس الثاني أن يكون “له جودة ثبات ببدنه في مباشرة أعمال الحرب، وذلك أن يكون معه الصناعة الحربية الخادمة والرئيسة”[9]، بل إنه في حديثه عن الرئيس الأول يلمح إلى شرط القدرات البدنية له، فيشترط أن يكون “تام الأعضاء، قواها مؤاتية أعضاءها على الأعمال التي من شأنها أن تكون بها؛ ومتى هم بعضو ما من أعضائه عملًا يكون به فأتى عليه بسهولة”[10]، إلا أن بالنظر إلى صفات الرئيس الأول، أو حتى بالنظر إلى صفات نوابه حال غيابه، نرى على الرغم من اهتمام الفارابي إلا أن الحكمة تظل هي الشرط الأهم، والفضيلة الأم التي وإن اجتمعت خصال الرئيس الثاني في مجلس من ستة رأسه من كانت الحكمة فضيلته، بل إن غياب الحكمة لديه تقتضى بالضرورة استحالة قيام المدينة الفاضلة، فيؤكد الفارابي على هذا بقوله: “فمتى اتفق في وقت ما أن لم تكن الحكمة جزء الرياسة وكانت فيها سائر الشرائط، بقيت المدينة الفاضلة بلا ملك، وكان الرئيس القائم بأمر هذه المدينة ليس بملك. وكانت المدينة تعرض للهلاك”[11].

لذا ففى الختام أكرر وأؤكد أن مصر تحتاج وبشدة إلى رئيس عسكري، ولكنه ليس ممن أُتفق على النظر إليهم كعساكر وحراس، والذي على آثرهم كان الرفض التام لكل من يرتدي البزة العسكرية، وليس لتلك المبررات الساذجة التي بها ظهرت مقولة أن (مصر محتاجة رئيس عسكري)، حيث يرى أصحاب تلك المقولة أن مصر لا يحكمها سوى السوط، ولا تتقدم إلا بالطغيان، بل هو عسكري وحارس ممن تكلم عنهم أفلاطون، فتكون العدالة غايته وهدفه، متخلقًا بالفضائل ومتدرعًا بالحكمة والعلم، أو هو ممن وضع شرائط حكمه الفارابي بقوله: “فيه ست شرائط: أحدهما أن يكون حكيمًا، والثاني أن يكون عالمًا حافظًا للشرائع والسنن والسير التي دبرها الأولون للمدينة، محتذيًا بأفعاله كلها حذو تلك بتمامها، والثالث أن يكون له جودة استنباط فيما لا يُحفظ عن السلف فيه شريعة، ويكون فيما يستنبطه من ذلك محتذيًا حذو الأئمة الأولين، والرابع أن يكون له جودة روية واستنباط لما سبيله أن يُعرف في وقت من الأوقات الحاضرة من الأمور والحوادث التي تحدث مما ليس سبيلها أن يسير فيها الأولون، ويكون متحريًا بما يستنبطه من ذلك صلاح حال المدينة، والخامس أن يكون له جودة ارشاد بالقول إلى شرائع الأولين، وإلى التي استنبط بعدهم مما احتذى فيه حذوهم، والسادس أن يكون له جودة ثبات ببدنه في مباشرة أعمال الحرب، وذلك أن يكون معه الصناعة الحربية الخادمة والرئيسة.”[12]، لتكون إسقاط تلك المقولة ومبرراتها بداية للنظر في العديد من ثوابتنا اللامبررة بعيدًا عن تجاربنا الخاصة، والبحث في حقائق الأمور وعللها الذاتية التي بها تقوم الحياة وتقوم دولة العدل.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

المراجع:
صورة الحاكم الفيلسوف، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012
آراء أهل المدينة الفاضلة، دار المشرق (المطبعة الكاثوليكية)، بيروت-لبنان، الطبعة الثانية
تاريخ الفلسفة اليونانية، مطبعة لجنة الترجمة والنشر والتأليف

محمد صابر

مهندس حر

باحث في علوم التربية وفلسفة التعليم بمركز “بالعقل نبدأ”

دراسات عليا في كلية التربية جامعة المنصورة

حاصل على دورة إعداد معلم (TOT) من BRITCH FOUNDATION TRAINING LICENSE المعتمد من الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة

حاصل على دورة في الفلسفة من جامعة إدنبرة البريطانية