قوة الثقافة العربية
لعل أكثر ما يثير الحيرة والضيق هو شعورنا بالدونية إزاء الثقافات الأخرى خاصة الثقافة الغربية، حيث نتصور خطأ أن هذه الثقافة هي وحدها ثقافة التقدم والنهضة والحداثة.. إلخ، هذه المصطلحات الرنانة التي ترتبط في الوعي العام لدى المواطن العربي بالثقافة الغربية وحدها، وأكثر ما يثير الحنق في كل هذا هو الشعور العام بأن اللغة العربية _وهي وعاء الثقافة العربية_ قد أصبحت تُعامل من أهلها هذه المعاملة السيئة للدرجة التي جعلتها لغة محاصرة، فهي لم تعد في كثير من الدوائر التعليمية والحكومية في بلداننا العربية لغة التخاطب، فضلا عن أن تكون لغة للعلم والتعليم.
الثقافة العربية تكتسب قوتها من قوة تمسكنا بها
إننا ينبغي أن ندرك أن الإهانة التي تلحق بلغتنا القومية وبثقافتنا العربية تنبع من داخلنا نحن قبل أن تكون من الآخرين، فالمعروف أن اللغة العربية معتمدة دوليا وهي في المرتبة السادسة من بين لغات الأمم المتحدة، والمعروف في ذات الوقت أنها لغة قيمة وذات تراث عريق، وقادرة على استيعاب كل جديد وأي إبداع في أي مجال من مجالات العلم والحياة، لقد كانت اللغة العربية لغة العلم والثقافة في عصر ازدهار الحضارة العربية الإسلامية،
ولا تزال قادرة على أن تكون كذلك بشرط أن يحرص أبناؤها على نقل كل جديد في أي علم إليها، وأن يحرصوا على أن تكون اللغة التي يكتبون بها أبحاثهم العلمية المبدعة، وعلى أن تكون اللغة الوحيدة التي يستخدمونها في معاهدهم العلمية وفي مراسلاتهم القومية والدولية، فاحترام اللغة القومية ينبغي أن يكون له الأولوية في كل ما يتعلق بنا وبحياتنا وبإبداعاتنا وفي تعاملاتنا اليومية والرسمية مع الآخر.
إن احترامنا للغتنا وحرصنا عليها هو في ذات الوقت احترام لأنفسنا ولثقافتنا وهويتنا القومية. واحترام اللغة لا يتجزأ، فليس من المقبول أن نحترمها فيما بيننا ونهملها في حوارنا مع الآخر أيا كانت جنسيته أو لغته، أو في نظمنا التعليمية أو في دوائرنا الحكومية.
إن اللغة العربية والثقافة العربية تكتسب قوتها من قوة تمسكنا بها وحرصنا عليها، وفي تمسكنا بها وحرصنا عليها يولد مستقبلنا المشرق وتقدمنا المنشود، فلا أحد يتقدم بلغة غير لغته أو في ظل ثقافة ليست ثقافته، هذا ما نجده ماثلا في صور متعددة للتقدم في دول آسيا وفي كثير من دول العالم الأخرى، إننا لا بد أن نخلق صورة للتقدم نابعة من قيمنا وبيئتنا في ضوء ثقافتنا القومية وفي ثوب قشيب من لغتنا العربية.
أهم عناصر القوة في ثقافتنا القومية
وإذا قال قائل: “وكيف ذلك وثقافتنا متخلفة ولغتنا قاصرة؟!” أقول له إن قوة ثقافتنا وقوة لغتنا بيدنا، فنحن الذين تخلفنا وقصرنا في حق ثقافتنا ولغتنا وحاصرناهما بجرينا وراء التشكل الكاذب بعناصر الثقافة الغربية وتقليدها تقليدا أعمى، أما الثقافة العربية بذاتها ففيها عناصر قوة لا توجد في تلك الثقافة التي قلدناها.
الدين الإسلامي
ولا شك أن أهم عناصر القوة في ثقافتنا القومية هو الدين الإسلامي الذي هو دين العقل والعلم، وكان بقيمه ودعوته لمنهجية الملاحظة والتأمل في جنبات الكون القوة الداعمة والمحركة للنهضة العلمية اللا محدودة التي أنشأها المسلمون وغزوا بها العالم وقامت من خلالها نهضة أوروبا الحديثة ذاتها، إنه ذلك الدين الذي لا تعارض فيه مطلقا بين الحكمة والشريعة، بين القول والعمل،
بين العلم والتدين بين الإيمان والإبداع العلمي والفكري، إنه الدين الذي يوازن بين مطالب الروح ومطالب الجسم، بين العاطفة والعقلانية، وهو الدين الذي دعا إلى حقوق الإنسان كاملة، ودعا إلى التوازن بين حق الفرد وحق المجتمع، بين حق المرأة وحق الرجل، وهو الذي أكد حقوق الأطفال على الأسرة والدولة في آن واحد، إنه الدين الذي دعى إلى التمسك بأهداب الحياة المشتركة بين مواطني الدولة مسلمين وأهل كتاب، ودعا إلى الحوار بالتي هي أحسن بين الجميع.
إن معظم قيم الثقافة العربية وسند قواتها إذن هو الدين، فليس من شك أننا حينما نقول أن من عناصر قوة الثقافة العربية أنها ثقافة حوار فذلك لأن ديننا دعا إلى ذلك الحوار وأمرنا بأن يكون هذا هو أساس الدعوة الدينية فما بالك بأي صورة أخرى من صور التحضر والحياة المشتركة بين البشر،
فالثقافة العربية استنادا منها إلى جوهرها الإيماني لم تكن يوما ثقافة صراع، بل هي دائما ثقافة حوار وسلام، وإذا بادر الآخر بالصدام والصراع يكون دفع السيئة بالحسنة، وإن لم يكن فأهلا بالدفاع عن الحق بكل الوسائل الممكنة، ومنها وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة،
ثقافة أخلاقية
وإن كان البعض يفهم من هذا خطأ أن هذه دعوة للحرب فإن الصحيح أنها دعوة لامتلاك كل عناصر القوة اقتصادية كانت أو سياسية أو علمية وليست فقط القوة العسكرية، وكذلك من أهم عناصر القوة في الثقافة العربية أنها ثقافة أخلاقية داعية إلى التمسك بأهداب الفضيلة والتحلي بكل القيم العليا السامية وعلى رأسها التقوى والتسامح وحب الآخرين بقدر حب الذات، والتعامل مع الجميع على قدم المساواة.
بين الأصالة والمعاصرة
إن استلهام قيم ثقافتنا العربية الأصيلة وجعلها هادية لنا في كل ما نقوم به من فكر أو عمل هو ما سيربط لدينا على مستوى الوعي والسلوك بين الفكر والعمل، بين الأصالة والمعاصرة فلقد أصبحت الثقافة وخاصة في عصر المعلومات الذي نعيشه صناعة قائمة بذاتها،
وأصبحت هي أساس ومحور عملية التنمية الشاملة في كل جوانبها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتكنولوجية، وإذا لم تكن الثقافة السائدة والمعيشة بين أفراد أي مجتمع هي ثقافته الأصيلة وخاصة إذا كانت تملك _كما أشرنا في الفقرة السابقة_ كل مقومات القوة وكل عناصر التقدم، فلا يمكن لهذا المجتمع أن ينهض أو يواصل مشاركته الفاعلة في حضارة العصر،
وإذا كانت الأمم والدول الأخرى كاليابان والصين بل وإسرائيل تحاول كسر عزلتها العلمية وسد الفجوة بين محلية لغتها وعالمية الثقافة العلمية بجعل تلك اللغات المحلية والقيم الثقافية المرتبطة هي عامل القوة المضافة لدخول العصر والمشاركة في صنع التقدم الحضاري للبشرية من أوسع الأبواب،
أقول إذا كانت تلك الدول وغيرها تفعل ذلك فإننا بلغتنا وثقافتنا العربية لسنا أقل من هذه الدول أو من تلك الشعوب التي سبقتنا في ركب الحضارة المعاصرة رغم أننا بثقافتنا العربية الأصيلة كنا سببا من أسباب التقدم في هذه الحضارة العلمية المعاصرة.
استخدام تقنيات عصر المعلومات في مواجهة التحديات
ولا شك أن تقنيات عصر المعلومات يمكن أن تساعدنا _كما يقول المختصون، خاصة د. نبيل علي في كتابه الثقافة العربية وعصر المعلومات_ في سد هذه الفجوة بين لغتنا وثقافتنا وبين اللغات والثقافات السائدة الأخرى، فكما أن تقنيات عصر المعلومات والإنترنت تمثل تحديا ثقافيا قاسيا للعرب للدرجة التي تجعلنا معرضين لحالة فريدة من الدارونية الثقافية، وتجعلنا مهددين بفجوة لغوية تفصل بين اللغة العربية ولغات العالم المتقدم تنظيرا وتعليما واستخداما وتوثيقا،
نجد أنه في المقابل تفتح تقنيات هذا العصر بما فيها الإنترنت أمامنا فرصا عديدة لتثبيت ونشر دعائم وقيم ثقافتنا العربية بصفتها ثقافة إنسانية عالمية أصيلة، وتعويض تخلفنا في كثير من مجالات العمل الثقافي.
وإذا ما نجحت الثقافة العربية بجهد أبنائها في أن يتعاملوا بشكل جدي مع هذه التقنيات الجديدة في عصر المعلومات فإنهم سيكونون قادرين حتما على مواجهة تحدياته وعلى تحقيق التقدم في مجالات العلم والحياة بشرط أن ينبع هذا التقدم من قيم ثقافتهم الأصيلة التي سبق أن أكدنا أنها مليئة بكل عناصر التقدم وبكل عوامل القوة اللازمة.
من أين نبدأ؟
وإذا سألني سائل: “من أين نبدأ طريق التقدم مستندين إلى قوة ثقافتنا وأصالتها؟”
لقلت إن البداية تكون من الإصرار على الحرص على أن تكون لغتنا العربية هي لغة التربية والتعليم في كل مراحل التعليم، وعلى أن تكون في ذات الوقت لغة الخطاب الثقافي مع بعضنا البعض ومع الآخر أيا كانت لغته وأيا كانت جنسيته،
فضلا عن ضرورة البدء في تعريب كل مستحدثات العلوم من كل لغات الدنيا إلى لغتنا العربية مستخدمين في ذلك ما تتيحه آليات عصر المعلومات وبأقصى قدر ممكن من الجهد البشري اللازم من علمائنا في كل التخصصات العلمية،
وقبل ذلك وبعده فإن الثقة بالنفس وبقوة ثقافتنا، مع القدر الكافي من الحرية وإصدار التشريعات اللازمة لتأكيد الهوية العربية في كل المجالات، مسائل ضرورية وحتمية على طريق التقدم والمشاركة الجادة في صنع حضارة العصر.
“منقول بإذن من كاتبه”
اقرأ أيضاً:
الثقافة وبناء شخصية الفرد والمجتمع
* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.