مقالاتعلم نفس وأخلاق - مقالات

نحو عهد أخلاقى جديد

لا شك أن مبحث الأخلاق يُعد المبحث الفلسفي الأهم منذ نشأة التفكير النظري لدى الإنسان، حيث دارت تأملات المفكرين حول منبع الأخلاقية لدى الإنسان، إذ اعتبروا أن الفضائل الأخلاقية تظل هي المميز للإنسان، وبقدر ما تكتسب المبادئ الأخلاقية صفة العمومية بقدر ما يرتبط بها البشر على اختلاف ألوانهم وأشكالهم وعصورهم التاريخية.

ومنذ أن اكتشف المفكرون المصريون القدماء «الضمير» باعتباره جوهر وباعث الأخلاق لدى الإنسان، ومنذ أعلن سقراط فيلسوف اليونان الكبير مبدأه الشهير «اعرف نفسك» وأن «الفضيلة واحدة»، وإلى الآن ظل البحث مستمرًا عن أخلاق عالمية واحدة ذات معايير محددة تعلو فيها المبادئ الأخلاقية السامية على حسابات المنافع والمصالح الأنانية للأفراد والشعوب.

وقد لعبت الأديان سواء الطبيعية أو السماوية دورًا مهمًا في مسيرة الإنسانية نحو أخلاق عالمية شاملة، على أساس أن كل دين يؤمن به أصحابه باعتباره دينًا صالحًا للجميع، واعتبار دعوته الإصلاحية الأخلاقية صالحة لكل البشر في أي زمان وأي مكان.

سطوة العلم الحديث وتراجع الدعوات الأخلاقية

هكذا كانت ديانات الشرق منذ مصر القديمة -وخاصة ديانة إخناتون التوحيدية- وكذا كانت البوذية والهندوسية والزرادشتية والكونفوشية فيما قبل الميلاد، حتى الديانات اليونانية كانت تتصور نفسها عالمية واتخذت صورها المتعددة وتعاليمها من تأثرها بديانات الشرق القديم، فأواصر القربى مشتركة بين الديانات الأورفية والفيثاغورية والأوليمبية بتلك الديانات الشرقية القديمة، وأخذت منها أسماء الآلهة وتصوراتها الأخلاقية والدعوة إلى المصير الأخروي واقتران أخلاقية المرء في حياته الدنيوية بمصيره الأخروي في الثواب والعقاب.

ولما ظهرت الديانات الكبرى وخاصة المسيحية والإسلام دعمتا هذه التصورات الأخلاقية والدينية، ونقلتها من مجرد التصورات التي يؤمن بها البشر كنتائج لتأملاتهم العقلية في الوجود والمصير إلى عقائد يقينية لدى المؤمنين بها، وظل أمر ارتباط العقائد الدينية بالتعاليم الأخلاقية عالمية الطابع لدى أصحاب هذه الديانات والمؤمنين بها قائما،

اضغط على الاعلان لو أعجبك

حتى جاء مطلع العصر الحديث حاملًا معه تباشير ما سُمي بعصر العلم، وتقهقرت الدعوات الأخلاقية والدينية أمام سطوة العلم الحديث وتطور تكنولوجياته، للحد الذي جعل البشر ينغمسون في حياة مادية تركزت على تلبية المطالب اللذية للإنسان والتي لم تتوقف عند حد، فأصبح اللهاث وراء حياة لذية تكثر مطالبها الشهوانية يومًا بعد يوم هو نمط حياة الناس في عصر الحداثة وما بعد الحداثة، عصر العولمة وما بعد العولمة، عصر العلمانية وما بعد العلمانية.

لا يزال بعيدا

إن ما يشهده عصرنا الحالي من انحلال أخلاقي وفوضى سلوكية ينقلب في إطارها الحق باطلًا والباطل حقًا، وتختلط فيه المشاعر الإنسانية بالرغبات الحيوانية، وتتعدد التصورات الأخلاقية بتعدد المجتمعات وبتعدد النظرات النسبية لمفهوم الحياة عند الأفراد والجماعات، إن كل ذلك يعد دافعًا لإعادة النظر من خلال إعادة السؤال القديم – الحديث: هل يمكن إقامة أخلاق إنسانية عامة يتفق حولها البشر؟!

أعتقد أن ذلك ليس أمرا صعبا في ظل ظاهرة جائحة كورونا، التي ساعدت في بدايتها في توحيد المشاعر الإنسانية، وجعلت العالم كله يتجه نفس الوجهة ويتساءل نفس الأسئلة ويبحث عن نفس الإجابات. لقد علت آنذاك قيمة العلم على قيمة السلاح، وتعالت صيحات الأخوة الإنسانية والمصير المشترك للبشرية محاولة التغلب على مظاهر الانقسام والصراع.

لكن الطريف أن البشر وبالذات في الدول المتقدمة لم يستوعبوا الدرس جيدا بعد، فعادوا إلى روح الأنانية والتنافس واحتكار اللقاحات وتأجيج الصراعات؛ لم يتأثر دعاة الصراع والإرهاب الدولي فظلوا على مواقفهم المخيبة لآمال البشر في عصر جديد يسوده السلام والمحبة والأخوة العالمية.

لن يكون ذلك العهد الأخلاقي الجديد ممكنا في ظل وجود قوى دولية لا تزال تحتل أرض الآخرين وتستبيح ثرواتهم، وفي ظل وجود إرهاب دولي يستخدم أذرعه وميليشياته في ضرب استقرار الدول، وفي ظل صراع محموم على السيادة بين الدول الكبرى وكأن العالم أمامهم لوحة من قطع الشطرنج تجري عليها صراعاتهم!

إن الأمل في عهد أخلاقي جديد لا يزال بعيدا، رغم أنه كانت هناك فرصة سانحة لذلك لم نتعلم منها الدرس بعد.. فهل نحن في انتظار كوارث عالمية جديدة لكي نعود بشرا متحابين مسالمين يعيش كل منا على أرضه في سلام؟!

“منقول بإذن من كاتبه”

اقرأ أيضاً:

دور حضارات الشرق القديمة في بناء الفكر الأخلاقي عند اليوناني

لا تشرق شمس حضارة إلا بالأخلاق 

اعرف نفسك

* تنويه: الأفكار المذكورة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.

أ. د. مصطفى النشار

رئيس الجمعية الفلسفية المصرية، ورئيس لجنة الفلسفة بالأعلى للثقافة