إن النظر للتاريخ يختلف باختلاف المنهجية التي تتناول التاريخ نفسه، فهناك من يتناول التاريخ باعتباره مجرد أحداث انتهت، والبعض ينظر للتاريخ باعتباره مرجعية ثابتة يجب الرجوع إليها بكل جوانبها، والبعض الآخر ينظر للتاريخ بأنه مرتبط بزمان ومكان معين ولا يمكن الرجوع بالزمن إلى الوراء.
نحاول في هذا البحث النظر للتاريخ بمنظور عقلاني لا ينظر إلى الأحداث التاريخية نفسها، بل يحاول النظر في السنن التاريخية والقضايا الحاكمة للتاريخ نفسه.
من هذا المنطلق نحاول فهم طبيعة العلاقة بين الأفعال والنتائج ومدى تأثير الفعل الإنساني كمؤثر في حركة التاريخ، وهل هذا الدور الإنساني هو وحده المحدد لحركة التاريخ ونتائجه؟
يمكن لنا أن نحدد ثلاث صيغ حاكمة نفهم من خلالها جريان الأحداث التاريخية وعلاقتها بالزمن الحاضر وعلاقة ذلك بحرية الإرادة الإنسانية، فمن الضروري النظر في التاريخ وأخذ العبر واستخلاص السنن والقواعد الحاكمة لحركة التاريخ، لارتباط ذلك بعالمنا المعاصر دون شك.
يمكن أن نقسم تلك القواعد وفق الواقع إلي صيغ ثلاث، قد تساعدنا على رؤية مختلفة للتاريخ قائمة على المنطقية وفهم مجريات الأحداث التاريخية والاجتماعية، فنجد في التاريخ بعض القضايا ذات الطابع الشرطي، ومنها ذات الطابع المحقق الحتمي، ومنها ما يكون على الاتجاه الطبيعي .
القضايا ذات الطابع الشرطي
ولبيان ذلك نبدأ بالحديث عن القضايا ذات الطابع الشرطي؛
فنجد أن هذا النمط من القضايا التاريخية يكون قائم بين حدثين أو مجموعتين من الأحداث، حيت يتم الربط بين الجزئين؛ فمتى ما توفر الشرط الأول تحققت النتيجة المشروطة
” إذا طلعت الشمس فالنهار موجود”
فهذه القوانين موجودة على المستوى المادي والمعنوي معا، فنجد فمثلا قانون غليان الماء من هذا الصنف من القضايا الشرطية؛ فالماء إذا ما تعرض للحرارة وبلغت درجة معينة بمستوى معين من الضغط يحدث الغليان، فهذا القانون يربط بين الشرط وتحقق النتيجة المشروطة فهذا قانون طبيعي مادي، ونجد أن هذا القانون لا يتعرض إلى مدى وجود الشرط أو عدم وجوده ولا يخبرنا عن تحقق الشرط سلبا أو إيجابا وإنما يخبرنا بتحقق النتيجة الشرطية التي لا تنفك عن الشرط، فمتى ما وُجد وجدت النتيجة. فغليان الماء نتيجة مرتبطة موضوعيا بتحقق الشرط.
وبالنظر للقانون الشرطي نجد أنه يقدم منفعة كبيرة للإنسان في حياته الاعتيادية، حيث نجد دوره في توجيه الإنسان في التصرف وفهم متطلبات النتيجة التي يريد الوصول إليها ، فمتى ما احتاج النتيجة؛ وفر الشرط لتلك النتيجة لتتحقق.
هذا القانون من الأمور التي تعبر بوضوح على نظم هذا الوجود بنظم دقيق محكم على مستوى القوانين والروابط المطردة الثابتة بين الأشياء ، فتلك الصياغة الدقيقة هي ما تجعل الإنسان يعرف وجهته التي يجب أن يتجه إليها إذا ما احتاج نتيجة بعينها ، فإذا كان غليان الماء يحدث صدفة؛ ما استطاع الإنسان التحكم في هذه الظاهرة ولا الاستفادة منها.
تطبيق القانون على الأحداث التاريخية وعلى المستوى المعنوي للإنسان
نفس هذا القانون نجده في الأحداث التاريخية التي تربط بين حادثتين ، فهذا القانون لم يتحدث عن الحادثة الأولى أنها متى توجد ومتى لا توجد وإنما تحدث عن الحادثة الثانية وأن تحققها مرتبط بتحقق حادثة قبلها وهذا يبدو واضح أيضًا على المستوى المعنوي الروحي للإنسان؛ فمتى ما غير من نفسه في بعض المواضع تغير الكثير من حوله.
وقد أشار القرآن الكريم لتلك القضية في صورة الرعد
﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ “الرعد” 11 فالله منح الناس عقولًا، وأعطاهم أدوات، وأعطاهم أسبابًا يستطيعون بها أن يتحكموا فيما يريدون؛ من جلب خير أو دفع شر.
ونجد أن هذا القانون يربط على سبيل المثال بين وفرة الإنتاج بعدالة التوزيع ، فمتى ما تحقق التوزيع العادل للإنتاج تحققت الوفرة التي ستكون نتيجة مشروطة بالتوزيع العادل للإنتاج، فالموارد في الحقيقة تكفي الكل شرط التوزيع العادل لتلك الموارد ممن ينتج عنه الاكتفاء.
على المستوى الاجتماعي
كذلك نجد تلك القضية الشرطية متحققة على المستوى الاجتماعي أيضا. فالربط بين الجهل وفساد المجتمع وأخلاق وسلوكيات الناس يبدو واضحًا، فمتى ما كان الجهل حاضرًا كانت النتيجة المشروطة غياب مظاهر الرقي والاحترام وبالتالي تسافل الأفراد.
ويظهر لنا من خلال هذا الطرح عدم غياب حرية الإنسان وإرادته في تناغم غاية في الإتقان بين الوجود المنظم وفق السنن والقوانين والإنسان صاحب الإرادة الحرة، فالصيغة الشرطية تُعبر عن تلك الإرادة الحرة واختيار الإنسان يمثل محور هذا القانون.
فاختيار الإنسان يمثل شرط تحقق النتيجة، فالشرط هنا هو فعل الإنسان نفسه والذي يتحدد بناء عليه النتيجة، فالسنن التاريخية حينما نفهمها وندرسها وفق هذا القانون الشرطي وحين يحل فعل الإنسان محل الشرط تصبح الأحداث التاريخية أكثر وضوحا لنا باعتبارها فعل الإنسان نفسه الذي متى ما وفَّر شرط معين كانت له نتيجة محددة، وبذلك يظهر بوضوح مدي تأثير فكر ورؤية الإنسان التي تحدد أفعاله التي هي نتيجة شرطية للنتائج التي تظهر له، مما يؤكد على أهمية اختيار الطريق الذي يجب أن يسلكه كلا منا في حياته.