مقالات

شنطة سفر… تغير مجرى التاريخ

أين نحن من التاريخ ؟
لملم شتات أغراضه، ووقف مودعاً ذكرياته في غرفته، أطال النظر في كل تفاصيل غرفته، سريره ودولاب ملابسه، مطمئناً نفسه بأنه لن يطيل السفر، فهي سنوات محدودة فقط للسفر، سيسافر ليستجمع ما يعينه على حياته المقبلة.

خرج من الغرفة، يحمل شنطة سفره وبها أغراضه المعينة له في السفر، ثقَّل ميزانها لكي لا يضطر لشراء ملابس جديدة؛ فهو مسافر ليعود ويتزوج، لم يسافر لكي يصرف على ملبس أو مأكل، فقط الزواج وما يلزمه من تشطيبات لمقر الزوجية.

فقط “الضروريات“، ما سيضطره للإنفاق، استمر على عهده يكافح شهواته، تمر الشهور تلو الشهور، كان يخرج للتنزه مع بعض أصدقاء الغربة، مستمراً على العهد وهو يرى الأصدقاء وقد اشتروا كل ما يعجبهم، ولكن بدأت الغيرة تتسرب إلى نفسه، وسرت رغبة الشراء لديه مدعومة بتلك النظرة الدونية من أصدقائه لاتهامه بالبخل! دعمتها إعجاب داخلي لملابس من “براند” شهير، لطالما أراد شراء ملابسه منذ أيام ما قبل السفر، ذاب الهدف المحدود للسفر، وبرق في مخيلته مظهره وهو ينال الإعجاب بملابسه الجديدة، وعلى الفور اشترى ما أعجبه من البراند الشهير، وكانت البداية!

مع الوقت انهار الاتفاق مع الذات قبل السفر، وخرجت احتياجاته عن الضروريات وزادت عن حدها المعقول، واستلذت نفسه الشراء والاستمتاع بحسن الملبس كلما غلى ثمنه. وغلى معه معدل سنوات عمره في الغربة، فخرجت عن الإطار المحدود من قبل السفر، وزادت معها رغباته، فذاب معها في دوامة العمل ليلبي متطلباته غير المنتهية.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

شنطة سفر المدينة من مطار المدينة الفاضلة: 

كما خرجت سنوات السفر لصاحبنا من هدفها المنشود، استجمعت المدينة شنطة سفرها لرحلة طويلة، رحلة للبحث عن سفر في سنن التاريخ وفلسفته في تحولات المدن.

فالفرد في المجتمع هو النواة لهذه المدينة، والمدن ترجمة لطموحات ساكنيها، فهذه المدينة -مثل صاحبنا التائه في الغربة- قد تغربت وذابت في دروب الحيرة بعد حين زمن. يقول الفارابي أن رحلة هذه المدن تبدأ عندما تخرج من تحت مظلة المدينة الفاضلة، وترغب في استظلال مدينة “الضروريات”.

وهي مدينة البحث عن الضروريات الإنسانية لساكنيها مما يحتاجون إليه، من مأكل ومشرب وغيره من احتياجات لا غنى عنها، فتدخل في رحلة التيه بعد أن تستزيد عند ضرورياتها، وتستمر في رحلتها بلا نهاية على أمل الإشباع فلا تتحصل عليه. فكيف تصل لوجهتها وقد فقدت البوصلة، وخرجت عن مسارها، كما خرج صاحبنا المسافر عن الاتفاق والمدة التي حددها لنفسه قبل السفر؟!

تقسيمات المدن وتحولاتها بعدما ذابت في رحلة السفر:

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فالمدن تنقسم ما بين الفاضلة وغير الفاضلة، أما الفاضلة فهي من استطاعت كمدينة أن تتحكم بالإغراءات والشهوات، وتحتكم للعقل كمنهجية عامة شاملة على كل القوى الغضبية والشهوية، ومنها يكون الإنسان العاقل هو من يجعل للعقل حاكميته على كل من قواه المدركة “الحس والخيال والوهم”، أو المحركة “الغضب والشهوة”.

وهذا الإنسان العاقل يسير في رحاب هذه المدينة الفاضلة، ينمي بعضهم بعض كضمانة لاستمرار هذه المدينة، لخلق واستمرار النخب الفاضلة الحاكمة لهذه المدينة.

أما المدينة غير الفاضلة، فبداية خروجها عندما تبحث عن الضروريات في إطار “الغضب والشهوة”، فتخرج مع عدم الاحتكام للعقل عن حد الكفاف، وتزداد في الضروريات بهدف الرغبة فقط في الامتلاك! فنسيت تماماً أنها كصاحبنا المغترب كانت في وضع مؤقت، وبفترة مؤقتة للعودة، فتحولت أكثر لمدينة أسماها الفارابي “مدينة اليسار“.

والمقصود باليسار هو الرخاء الاقتصادي والإسراف فيه كغاية للحياة، والتعاون بين أفرادها ينتج “مدينة النذالة“، ويتبعها كنتيجة طبيعية مزيداً من الانغماس في اللذات والشهوات، فتزداد الرغبة بلا مسئولية والاستمتاع بكل رفاهية فيها، فتكون ما يسمى بـ “مدينة الخسة“.

وهذه المدينة هي جنة العشق لأصحاب الشهوات، مدينة ينعم فيها بكل الملذات الدنيوية، وتزداد كلما كانت في إطار من الحرية المطلقة دون رادع، تحت مسميات الليبرالية أو الديمقراطية، وهذه الفوضى والمساواة في اتباع الشهوات تسمى بـ “مدينة الحرية أو الجماعية

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فلسفة وسنن التاريخ في تحولات المدن:

وللتوضيح أكثر، يضع ابن خلدون في مقدمته الوافية الشاملة “مقدمة ابن خلدون” مراحل لتحول المدن، وخروجها عن المسار الصحيح –إن لم تجدد العزم لديها للاستمرار- حيث تتطور المدينة لديه من مراحل البداوة للمدينة من التمدن، تحتكم هذه المدينة الناشئة “للعصبة” ورجال أقوياء، ثم يعم الرخاء الاقتصادي والترف أرجاء هذه المدينة، فينعم الرجال في نعيم مقيم ورخاء ينسيهم أهوال ما لاقاه أجدادهم من قبل، فيضعف هذا المال الوفير بأسهم، ويلين من عزيمتهم، وهو ما يرتد على مدينتهم الغارقة في اللذة؛ فالأمة وفيرة الأموال تنتج رجالاً ضعفاء، فتضعف دولتهم وتنهار، وتستمر سنن التاريخ على هذا المنوال… بعد الانهيار يقوي العزم مرة أخرى رجال أقوياء.

وكذلك يشرح الفارابي تحولات المدن، فيحمل المسئولية الأول للخلل الذي يصيب المدينة الفاضلة، لأصحاب “مدينة الكرامة” وهم أهل اليسار الذين اتفقوا وتعاونوا فيما بينهم بقصد أن ينالوا العظمة والشهرة والذكر الحسن، وبدوافع شخصية تماماً بعيداً عن الاندماج في المجتمع؛ فهم في رأي الفارابي أول معول للهدم!

  • تحول المدينة الفاضلة لمدينة الكرامة: تبدأ بأن ينخر الفساد في أوصالها بعد أن يصلها حكام فاسدون، يترقوا في المناصب من أجل الذكر الحسن والكرامة، وبعد أن كان البحث في السابق عن الضروريات فقط، أي زادت الضروريات لنيل الكرامة عند حكام المدينة.
  • تحول مدينة الكرامة لمدينة الشهوة: تدريجياً تتحول المدينة من الكرامة إلى اليسار واللذة، فصاحب الكرامة يسعى لإشباع لذاته الخاصة باستئثار الخيرات لنفسه ولجماعته، فلا هم لهم سوى الامتلاك، فيخرج الأعيان في طرقات المدينة يتفاخرون بالمال والأنساب، بدلاً من العقلانية في المدينة الفاضلة، فطرقات هذه المدينة الآن تتفشى فيها “النذالة والخسة” .

ووضعها السياسي رهينة للخارج بسبب سعي رجالها لمتاع الدنيا واليسار فقط، ولأن أنهار النعم قد خلقت الأمة الضعيفة، وأصابت المجتمع بآفات السرقة والنهب من هؤلاء الأعيان. وكلما انغمست هذه المدينة أكثر في لذاتها وشهواتها، تقوى رجالها الضعفاء بالاستبداد والغلبة لحماية أنفسهم.

  • تحول مدينة الشهوة إلى الجماعية: مع ازدياد الأطماع والرغبة في جمع الأموال على حساب الشعب، تتعدد طرق تحصيل هذه الأموال ما بين المشروعة وغير المشروعة، ويزداد عدد جامعي هذه الأموال، وتكون هذه الشهوية لطبقية مجتمعية، ومع ازدياد الضغوضات على الشعوب المغلوبة على أمرها، يثورون ضد هذه القلة الشهوية الحاكمة، ويطالبون بالمساواة معهم، وكل من يرى في نفسه الحق في الحكم، يصل للحكم وبالتالي يكون حكم أكثرية وتكون “مدينة الحرية“.
  • مدينة الحرية تتحول لأي مدينة وفقاً لنخبتها: بعد الثورة يعم المدينة فوضى تحت مسميات الحرية، فتكون حرية بلا مسئولية، ينتج عنها مزيد من الفوضى والفساد، وسلب أموال أهل اليسار الذين قامت ضدهم الثورة.

وتعد هذه المرحلة في عمر المدينة، هي الاختبار الحقيقي لأهل الفكر والنخب، فهم من بيدهم الآن قيادة هذه المدينة وتجنيبهم دوامة التسافل والانسحاق أكثر في خيارات نتائجها الكارثية على مجتمع هذه المدينة.

اضغط على الاعلان لو أعجبك

فالمدينة الآن بحاجة عاجلة لحاكم من النخبة العاقلة، ملم ومدرك لأبعاد هذا الانهيار، متشابك مع مجتمعه، يعلم مواطن القوة والضعف فيه؛ لأن هذه المرحلة هي بحاجة لزعيم فعلي. ويذكر التاريخ أن ألمانيا باختيارها وبصندوقها الانتخابي قد أوصلت “هتلر” لسدة الحكم في ظروف مماثلة لتلك الفترة من الحرية، وقادها لمصير أكثر ضبابية من سابقيه. فهذه هي الفترة الذهبية لتبيان تأثير النخب في المدن ومدى المسئولية الواقعة على عاتقهم، فإن كانت نخب تغلب أعادت الكرة للاستبداد، وإن كانت يسار فكأنها لم تكن لتثور من البداية. ومن التاريخ ندرك كيف حكم هتلر ألمانيا وبطريقة ديمقراطية!!

  • مدينة الحرية تتحول لمدينة التغلب والاستبداد: يوضح الفارابي أن المجتمع في هذه الحالة الحرجة بعد الثورة، يبالغ في طلب الحرية المطلقة، وتنشأ نخب جديدة لا تختلف عن سابقيها من اليسار والغلبة، لأن الزيادة في الغضب من بعد الثورة تزيد من “الكرامة” التي هي الذكر الحسن والشهرة بدافع شخصي، فيغرقوا أكثر في الشهوات وينهبوا أموال أصحاب المال الذين قامت ضدهم الثورة، ولأنهم النخب المتحدثة حالياً والمسلط عليهم الإعلام، فيطيعهم العامة ويسيروا في ركبهم، حتى يؤول الحكم لهم فيشكلوا في البداية حكم قلة متغلبة، سرعان ما تنتهى لحكم فرد مستبد.
  • مدينة الاستبداد: وهي النتيجة النهائية والمنطقية لجميع ما سبقها من تحولات، فهي مدينة الرعب والعبودية وأبعد ما تكون عن الحكم الرشيد والمدينة الفاضلة. ويقدم الحاكم المستبد فيها كل الدعم للخارج مقابل استمرار حكمه، وهذا المستبد هو بداية لمسارات ضياع مختلفة، فقد تثور حاشيته عليه مكونين “قلة غالبة” يحكمون بعده، حتى نصل لمستبد جديد، أو تزيد حدة الضياع بثورة للشعب ضده، فيعيدوا الكرّة لحكم أكثرية وتستمر سلسلة سنن تاريخ المدن في الاستمرار أو العودة من جديد.

 

كيف الخروج من هذه السلسلة؟  

ليست الصورة بهذه القتامة، فما زال هناك أمل للخروج، فهذه المسارات ليست حتمية الحدوث، طالما كسرناها واتبعنا الطرق الصحيحة؛ فحركة التاريخ ليست تصاعدية، وإنما هي سنن وقوانين، فإن اتبعناها بالشكل الصحيح نهضت أمتنا، وإن تسافلنا دخلنا معترك هذه التحولات التاريخية. والإنسان لديه الحرية والوعي للتحكم في اختياراته والسبل التي لا بد من كشف غموضها للسير فيها، قبل أن يزج بنفسه في أهوال نتاج خطأ تصوراته؛ فالنفس الإنسانية في حاجة دائمة للغضب والشهوة ولكن بشكل عادل، وبوضعها في الشكل السليم وفي إطارها الحقيقي، مثل أن المسافر في الغربة في حاجة للمأكل والملبس ولكن امتحانه الحقيقي هو ما يحتاجه بالفعل، وترْك ما يفيض عن حاجته ويتلذذ بامتلاكه.

وهذا الإنسان الحر هو الأمل والنواة لهذه المدينة الفاضلة المرجوة، فهي ليست بالحلم المستحيل غير القابل للتحقيق، بل هي نتاج تفكير ووعي وتشابك للمثقفين وأصحاب الوعي مع مجتمعاتهم، مستعينين بمنهج عقلاني ورؤى صحيحة، تتحكم في كل سبيل تنفذ منه سهام خداعة غير ضرورية للشهوة والغضب.

 

اقرأ أيضا:

أن نكون الشيخ ” محمد كُريم ” – بطل المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الفرنسي

.غربة ابن رشد

الفيلسوف الأول

 

أحمد صالح

عضو فريق مشروعنا فرع القاهرة

مقالات ذات صلة